الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان
.موقف الْعِزّ بن عَبْدِ السَّلامِ من الملك الصالح: فصل:وَلَمَّا اسْتَوْلَى الْمَلِكُ الصَّالِحُ عَلَى دِمَشْقَ اسْتَعَانَ بِالإِفْرِنْجِ، وَاصْطَلَحَ مَعَهُمْ عَلَى أَنْ يُسْعِفُوهُ ضِدَّ أَخِيهِ، مَلْك مِصْرَ وَيُعْطِيهُمْ مُقَابِلَ مَعُونَتِهِمْ صَيْدَا وَقَلْعَةَ الشَّقِيفِ، وَغَيْرِهِا مِنْ حُصُونِ الْمُسْلِمِينَ.وَدَخَلَ الصَّلِيبِيُّونَ دِمَشْقَ، لِشِرَاءِ الصَّلاحِ فَاسْتَفْظَعَ الشَّيْخُ الْعِزُّ بن عَبْدِ السَّلامِ لِذَلِكَ، وَغُمَّ غَمَّا شَدِيدًا، فَأَفْتَى بِتَحْرِيمِ بَيْعِ السِّلاحِ لِلإِفْرِنْجِ، وَتَرَكَ الدُّعَاء لِلسُّلْطَانِ فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ.وَنَدَّدَ بِخِيَانَةِ السُّلْطَانِ لِلْمُسِلِمِينَ، وَكَانَ مِمَّا دَعَا بِهِ فِي خُطَبِةِ: اللَّهُمَّ أَبْرِمْ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَمْرَ رُشْدٍ تُعِزُّ فِيهِ وَلِيِّكَ، وَتُذِلُّ بِهِ عَدُوَّكَ، وَيُعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَتِكَ، وَيُنْهَى فِيهِ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَالنَّاسُ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ، فَبِمِثْلِ لَمْحِ الْبَرْقِ بَلَّغَ الْجَوَاسِيسُ الْمَلِكَ مَا فَعَلَهُ قَاضِى الْقُضَاةِ.وَمَا أَكْثَرُ الْمُبَلِّغِينَ وَالْمُتَوَدِّدِينَ وَالنَّمَّامِينِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، فَغَضِبَ السُّلْطَانُ، وَعَزَلَ الشَّيْخُ عَنْ الِقَضَاءِ فَرَحِلَ الشَّيْخُ عَنْ دِمَشْق إِلَى مِصْرَ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَرِيقِ أَرْسَلَ السُّلْطَانُ فِي أَثَرِهِ، فَأَدْرَكَتْهُ رُسُلُ الْمَلِكِ الصَّالِحِ. وَطَلَبُوا مِنْهَ الرُّجُوعَ، وقَالُوا لَهُ: أنَّ السُّلْطَانَ عَفَا عَنْكَ وَسَيَرُدَّكَ إِلَى مَنْصِبِكَ عَلَى أَنْ تَنْكَسِرَ لَهُ وَتَعْتَذِرَ، وَتُقَبِّلُ يَدَهُ.فَقَالَ لَهُمْ الشَّيْخُ: أَنَا مَا أَرْضَى أَنْ يُقَبِّلَ يَدِي، فَضْلاً عَنْ أَنْ أُقَبِّلَ يَدَهُ يَا قَوْمِ أَنْتُمْ فِي وَادِي، وَأنَا فِي وَادِي، ثُمَّ مَضَى فِي طَرِيقِهِ حَتَّى وَصَلَ مِصْرَ. هكَذَا الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ لا تَأْخُذُهُمْ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ.اللَّهُمَّ قَوِّنَا بِالْيَقِينِ وَامْنَحْنَا التَّوْفِيقَ وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ..نصيحة مُنْذِر بن سَعِيدٍ لعَبْدَ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ: فَصْلٌ:وَلَمَّا عَلِمَ مُنْذِرُ بن سَعِيدٍ قَاضِي الْجَمَاعَةِ بِقُرْطُبَةِ، أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ النَّاصِرِ بَنَى مَدِينَةَ الزَّهْرَاءِ وَوَضَعَ فِيهَا الصَّرْحَ الْمُمَرْدَ، وَاتَّخَذَ لِقُبْتِهِ قَرَامِيدَ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضْةِ.فَغَضِبَ الشَّيْخُ لِذَلِكَ، وَتَأَلَّمَ لِهَذَا الْبَذَخِ فِي مَالِ الدَّوْلَةِ وَعَلِمَ أَنَّهُ الْمَسْؤُولُ الأَوْلُ أَمَامَ بَدِيعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْهِي عَنْ هَذَا السَّرْفِ الْمُضِرِّ بِصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.فَجَاءَ إِلَى النَّاصِر وَقَبَّحَ عَمَلَهُ هَذَا وَانَّبَهَ بِقَوْلِهِ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَخَزَاهُ اللهُ بَلَغَ بِكَ هَذَا الْمَبْلَغَ، وَلا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ قِيَادِكَ هَذَا التَّمْكِين حَتَّى أَنْزَلَكَ اللهُ مَنَازِلَ الْكَافِرِينَ مَعَ مَا آتَاكَ اللهُ وَفَضَّلَكَ عَلَى الْعَالَمِينَ.فَاقْشَعَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ النَّاصِر مِنْ قَوْلِ الشَّيْخِ وَقَالَ لَهُ: أنْظُرْ مَاذَا تَقُولُُ؟ كَيْفَ أَنْزَلَنِي مَنَازِلَهُمْ؟ قَالَ: نَعَمْ ألَيْسَ اللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}.فَسَكَتَ النَّاصِرُ وَنَكَّسَ رَأْسَهُ سَاعَةً، وَاغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ مِنَ البُكَاءِ وَصَارَتْ دُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ وَلِحْيَتِهِ، خَوْفًا مِنَ اللهِ حَيْثُ وَصَلَتْ الْمَوْعِظَةُ الْخَالِصَةُ إِلَى قَلْبِهُ، وتأثر َتَأَثّرًا عَظِيمًا لأَنَّهَا مِنْ قَلْبٍ إِلَى قَلْبٍ.ثُمَّ قَالَ لِلْشَيْخِ: جَزَاكَ اللهُ عَنَّا وَعَنِ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، وَأَكْثَرَ فِينَا مِنْ أَمْثَالِكَ، فالَّذِي نَطَقْتَ بِهِ حَقٌّ وَاللهِ وَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ يَلْهَجُ بِالاسْتِغْفَارِ ثُمَّ أَمَر بِنَقْصِ سَقْفِ الْقُبَّةِ، وَعَادَ قَرَامِيدُهَا تُرَابًا.فَتَأَمَّلْ يَا أَخِي كَيْفَ أَنَّ سُلْطَانَ الدُّنْيَا وَالْمَادَةِ وَقَفَ خَاشِعًا أَمَامَ هَذَا العَالِمِ الَّذِي لا تَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ الَّذِي أَدَّى وَاجِبَهُ عَلَى الْوَجْهِ الأَكْمَلِ مُعْتَمِدًا عَلَى فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا وَلَوْ كَانَ مِنْ عُلَمَاءِ هَذَا الْعَصْرِ الْمُظْلِمُ لَسَمِعْتَ غَيْرَ هَذَا فَلا حَوْلَ وَلا قُوَةَ إِلا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلِ.اللَّهُمَّ أَحْيِي قُلُوبًا أَمَاتَهَا الْبُعْدُ عَنْ بَابِكَ، وَلا تُعَذِّبْنَا بِأَلِيمِ عِقَابِكَ يَا أَكْرَمَ مَنْ سَمَحَ بِالنَّوَالِ وَجَادَ بِالإِفْضَالِ، اللَّهُمَّ أَيْقِظْنَا مِنْ غَفْلَتِنَا بِلُطْفِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَتَجَاوَزْ عَنْ جَرَائِمِنَا بِعَفْوِكَ وَغُفْرَانِكَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ..نصيحة أحد العلماء لجعفر المنصور: فَصْلٌ:وَذُكِرَ أَنَّهُ قَدِمَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَنْصُورُ مَكَّةَ شَرَّفَهَا اللهُ حَاجًّا فَكَانَ يَخْرُجُ مِنْ دَارِ الْنَدْوَةِ إِلَى الطَّوَافِ فِي آخِرِ الليْلَ، يَطُوفُ وَيُصَلِّي وَلا يُعْلمُ بِهِ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرَ، رَجَعَ إِلَى دَارِ النَّدْوَةِ، وَجَاءَ الْمُؤَذِنُونَ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةَ فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ.فخَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حِينَ أَسْحَرَ فَبَيْنَمَا هُوَ يَطُوفُ إِذْ سَمِعَ رَجُلاً عِنْدَ الْمُلْتَزِمِ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ ظُهُورَ الْبَغْي وَالْفَسَادَ فِي الأَرْضِ، وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مِنْ الظُّلْمِ، وَالطَّمَعِ، فَأَسْرَعَ الْمَنْصُورُ فِي مَشْيِهِ، حَتَّى مَلَءَ مَسَامِعَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَفَهِمَ قَوْلُهُ كُلَّهُ.ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ نَاحِيَةً مِنَ الْمَسْجِدِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَدَعَاهُ، فَأَتَاهُ الرَّسُولُ وَقَالَ لَهُ: أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ وَأَقْبَلَ مَعَ الرَّسُولِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُورُ: مَا هَذَا الَّذِي سَمِعْتُكَ تَقُولُ مِنْ ظُهُورِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ فِي الأَرْضِ وَمَا يَحُولُ بَيْنَ الْحَقِّ وَأَهْلِهِ مَنْ الطَّمَعِ وَالظُّلْمِ، فَوَاللهِ لَقَدْ حَشَوْتُ مَسَامِعِي مَا أَمْرَضَنِي وَأَقْلَقَنِي.فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَمَّنْتَنِي عَلَى نَفْسِي أَنْبَأْتُكَ بِالأُمُورِ مِنْ أُصُولِهَا وَإِلا اقْتَصَرْتُ عَلَى نَفْسِي فَفِيهَا لِي شُغْلٌ شَاغِلٌ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ آمِنٌ عَلَى نَفْسِكَ. فَقَالَ الَّذِي دَخَلَهُ الطَّمَعُ حَتَّى حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ وَإِصْلاحِ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْفَسَاد فِي الأَرْضِ أَنْتَ.فَقَالَ: وَيْحَكَ يَدْخُلُنِي الطَّمَعُ وَالصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ فِي يَدِي وَالْحُلْوَ وَالْحَامِضَ فِي قَبْضَتِي؟ قَالَ: وَهَلَ دَخَلَ أَحَدًا مِنَ الطَّمَعَ مَا دَخَلَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللهَ تَعَالَى اسْتَرْعَاكَ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَغْفَلْتَ أُمُورَهُمْ وَاهْتَمَمْتَ بِجَمْعِ أَمْوَالَهُمْ. وَجَعَلْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ حِجَابًا مِنْ الْجِصَّ، وَالآجُرِ وَأَبْوابًا مِنَ الْحَدِيدِ وَحَجَبَةً مَعَهُمْ السِّلاحُ ثُمَّ سَجَنْتَ نَفْسَكَ فِيهَا عَنْهُمْ وَبَعَثْتَ عُمْالَكَ فِي جَمْعِ الأَمْوَالِ وَجِبَايَتِهَا. وَاتَّخَذْتَ وُزَرَاءَ وَأَعْوَانًا ظَلَمَةً إِنْ نَسِيتَ لَمْ يُذَكِّرُوكَ وَإِنْ ذَكَرَتَ لَمْ يُعِينُوكَ وَقَوَّيْتَهُمَ عَلَى ظُلْمِ النَّاسِ بِالأَمْوَالِ وَالْكِرَاعِ، وَالسِّلاحِ وَأَمَرْتَ بِأَنْ لا يَدْخُلَ عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ إِلا فُلانٌ وَفُلانٌ سَمَيْتَهُمْ وَلَمْ تَأْمُرْ بِإِيصَالِ الْمَظْلُومِ وَالْمَلْهُوفِ وَلا الْجَائِعِ وَلا الْعَارِي وَلا الضَّعِيفِ وَلا الْفَقِيرِ َوَلا أَحَدٌ إِلا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ حَقٌّ.فَلَمَّا رَآكَ هَؤُلاءِ النَّفَرُ الَّذِينَ اسْتَخْلَصْتَهُمْ لِنَفْسِكَ وَآثَرْتَهُمْ عَلَى رَعِيَّتِكَ وَأَمَرْتَهُمْ أَنْ لا يُحْجِبُوا عَنْكَ تُجْبِي الأَمْوَال وَلا تُقَسِّمُهَا قَالُوا: هَذَا قَدْ خَانَ اللهَ فَمَا لَنَا لا نَخُونُهُ وَقَدْ سُخِّرَ لَنَا.فَائْتَمَرُوا عَلَى أَنْ لا يَصِلَ إِلَيْكَ مِنْ عِلْمِ أَخْبَارِ النَّاسِ إِلا مَا أَرَادُوا وَأَنْ لا يَخْرُجُ لَكَ عَامِلٌ فَيُخَالِفُ لَهُمْ أَمْرًا إِلا أَقْصُوهُ حَتَّى تَسْقُطَ مَنْزِلَتهُ وَيَصْغَرُ قَدْرُهُ.فَلَمَّا انْتَشَرَ ذَلِكَ عَنْكَ وَعَنْهُمْ، أَعْظَمُهُمْ النَّاسَ- وَهَابُوهُمْ وَكَانَ أَوْلُ مَنْ صَانَعَهُمْ عُمَّالَكَ بِالْهَدَايَا وَالأَمْوَالِ لِيَتَقَوُّوا بِهُمْ عَلَى ظُلْمِ رَعِيَّتِكَ.ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ذَوُو الْقُدْرَةِ وَالثَّرْوَةِ مِنْ رَعِيَّتِكَ لِيَنَالُوا ظُلْمَ مَنْ دُونَهِمْ مِنَ الرَّعِيَّةِ فَامْتَلأَتْ بِلادُ اللهِ بِالطَّمَعِ بَغْيًا وَفَسَادًا وَصَارَ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ شُرَكَاءَكَ فِي سُلْطَانِكَ وأَنْتَ غَافِلٌ.فَإِنْ جَاءَ مُتَظِّلِمُ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ إِلَيْكَ وَإِنْ أَرَادَ رَفْعَ صَوْتَهُ أَوْ قِصَّتَهُ إِلَيْكَ عِنْدَ ظُهُورِكَ وَجَدَكَ قَدْ نَهِيتَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَّفْتَ لِلنَّاسِ رَجُلاً يَنْظُرُ فِي مَظَالِمِهِمْ، فَإِنَّ جَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَبَلَّغَ بِطَانَتُكَ سَأَلُوا صَاحِبَ الْمَظَالِمِ أَنْ لا يَرْفَعَ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُتَظَلِّمِ بِهِ حُرْمَةٌ وَإِجَابَةٌ لَمْ يُمَكِّنَهُ مِمَّا يُرِيدُ خَوْفًا مِنْهُمْ.فَلا يَزَالُ الْمَظْلُومُ يَخْتَلِفُ إِلَيْهِ وَيَلُوذُ بِهِ وَيَشْكُو، وَيَسْتَغِيثُ وَهُوَ يَدْفَعُهُ وَيَعْتَلِي عَلَيْهِ، فَإِذَا جَهِدَ، وَأُخْرِجَ وَظَهَرْتَ صَرَخَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَيُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا، لِيَكُونَ نَكَالاً بِغَيْرِهِ، وَأَنْتَ تَنْظُرُ، وَلا تُنْكِرُ وَلا تُغْنِي، فَمَا بَقَاءُ الإِسْلامِ وَأَهْلهِ عَلَى هَذَا.وَلَقَدْ كَانَ بَنُو أُمَيَّة وَكَانَتْ الْعَرَبُ لا يَنْتَهِي إِلَيْهُمْ الْمَظْلُومُ إِلا رُفِعَتْ ظَلامَتُهُ إِلَيْهِمْ، فَيُنْصَفُ وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي مِنْ أَقْصَى الْبِلادِ حَتَّى يَبْلُغَ بَابَ سُلْطَانِهِمْ، فَيُنَادِي يَا أَهْلِ الإِسْلامِ فَيَبْتَدِرُونَهُ مَا لَكَ؟ فَيَرْفَعُونَ مَظْلَمَتَهُ إَلَى سُلْطَانِهِمْ فَيُنْصِفُ.ولَقَدْ كُنْتُ أَسَافِرُ إِلَى أَرْضِ الصِّين وَبِهَا مَلِكٌ فَقَدِمْتُهَا مَرَّةٌ وَقَدْ ذَهَبَ سَمْعُ مَلِكِهِمْ، فَجَعَلَ يَبْكِي. فَقَالَ وُزَرَاؤهُ: مَا لَكَ تَبْكِي لا بَكَتْ عَيْنَاكَ.فَقَالَ: أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَبْكِي عَلَى الْمُصِيبَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِي، وَلَكْنْ أَبْكِي لِمَظْلُومٍ يَصْرُخُ بِالْبَابِ فَلا أَسْمَعُ صَوْتَهُ.ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنْ كَانَ ذَهَبَ سَمْعِي فَإِنَّ بَصَرِي لَمْ يَذْهَبْ، نَادُوا فِي النَّاسِ أَلا لا يَلْبِسُ ثَوْبًا أَحْمَرَ إِلا مَظْلُومًا، فكَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَيَطُوفُ النَّهَارَ هَلْ يَرَى مَظْلُومًا فَيُنْصِفَهُ.هَذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مُشْرِكٌ بِاللهِ، قَدْ غَلَبَتْ رَأْفَتُهُ بِالْمُشْرِكِينَ، وَرِقَتُهُ، عَلَى شُحَّ نَفْسِهُ فِي مُلْكِهِ وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِاللهِ، وَابْنُ عَمِّ نَبِيِّ اللهِ لا تَغْلِبَكَ رَأْفَتُكَ بِالْمُسْلِمِينَ، وَرَقَّتُكَ عَلَى شُحِّ نَفْسِكَ؛ فَإِنَّكَ لا تَجْمَعُ الأَمْوَالَ إِلا لِوَاحِدٍ مِنْ ثَلاثَةٍ.إِنْ قُلْتُ أَجْمَعُهَا لِوَلَدِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِي الطِّفْلِ الصَّغِيرِ يَسْقُطُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَمَا لَهُ عَلَى الأَرْضِ مَالٌ، وَمَا مِنْ مَالِ إِلا وَدُونُهُ يَدٌ شَحِيحَةٌ تَحْوِيهِ، فَمَا يَزَالُ اللهُ تَعَالَى يَلْطُفُ بذَلِكَ الطِّفْلَ حَتَّى تَعْظُمَ رَغْبَةَ النَّاس إِلَيْهِ، وَلَسْتَ الَّذِي تُعْطِي بَلِ اللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ.وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لأُشَيِّدَ سُلْطَانِي فَقَدْ أَرَاكَ اللهُ عِبَرًا فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا جَمَعُوهُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَا أَعَدُّوا مِنَ الرِّجَالِ وَالسِّلاحِ وَالْكِرَاعِ وَمَا ضَرَّكَ وَوَلَدَ أَبِيكَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنْ قِلَّةِ الْجَدَّةِ وَالضَّعْفِ حِينَ أَرَادَ اللهُ بِكُمْ مَا أَرَادَ.وَإِنْ قُلْتَ: أَجْمَعُ لِطَلَبِ غَايَةٍ هِيَ أَجْسَمُ مِنْ الْغَايَةِ الَّتِي أَنْتَ فِيهَا. فوَاللهِ مَا فَوْقَ مَا أَنْتَ فِيهِ إِلا مَنْزِلَةُ لا تُدْرَكُ إِلا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ- يُرِيدُ الْجَنَّةَ وَصَدَقَ رَحِمَهُ اللهُ.يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ تَعَاقِبُ مَنْ عَصَاكَ مِنْ رَعِيَّتِكَ بِأَشَدِّ مِنَ الْقَتْلِ؟ قَالَ: لا. قَالَ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالْمَلِكِ الَّذِي خَوَّلَكَ، وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.وَهَوَ تَعَالَى لا يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْقَتْلِ، وَلَكِنْ يُعَاقِبُ مَنْ عَصَاهُ بِالْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ الأَلِيمِ، وَهُوَ الَّذِي يَرَى مِنْكَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ قَلْبُكَ وَأَضْمَرَتْهُ جَوَارِحُكَ فَمَاذَا تَقُولُ إِذَا انْتَزَعَ الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ مُلْكَ الدُّنْيَا مِنْ يَدَكَ وَدَعَاكَ إِلَى الْحِسَابِ هَلْ يُغْنِي عَنْكَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِمَّا كُنْتَ فَيهِ مِمَّا شَحِحْتَ عَلَيْهِ مِنْ مُلْكِ الدُّنْيَا.فَبَكَى الْمَنْصُورُ بُكَاءً شَدِيدًا حَتَّى نَحَبَ وَارْتَفَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: كَيْفَ احْتِيَالِي فِيمَا خُوِّلْتُ فِيهِ وَلَمْ أَرَ مِنَ النَّاسِ إِلا خَائِنًا؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْكَ بالأَئِمَّةِ الأَعْلامِ الْمُرْشِدِينَ. قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: الْعُلَمَاءُ. قَالَ: قَدْ فَرُّوا مِنِّي، قَالَ: هَرَبُوا مِنْكَ مَخَافَةَ أَنْ تَحْمِلَهُمْ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ طَرِيقَتِكَ مِنْ قِبَلِ عُمَّالِكَ.وَلَكِنْ افْتَحْ الأَبْوَابَ وَسَهِّلِ الْحِجَابَ، وَانْتَصِرْ لِلْمَظْلُومِ مِنَ الظَّالِمِ، وَامْنَعْ الْمَظَالِمَ وَخُذْ الشَّيْءَ مِمَّا حَلَّ وَطَابَ وَاقْسِمْهُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ، وَأَنَا ضَامِنٌ عَلَى أَنَّ مَنْ هَرَبَ مِنْكَ أَنْ يَأْتِيَكَ، فَيُعَاوِنَكَ عَلَى صَلاحِ أَمْرِكَ، وَرَعِيَّتِكَ. فَقَالَ الْمَنْصُورُ: اللَّهُمَّ وَفِّقَنِي أَنْ أَعْمَلَ بِمَا قَالَ هَذَا الرَّجُلَ وَأُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَخَرَجَ فَصَلَّى بِهُمْ.. إلخ.آخر: اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلا مَفْتُونِينَ وَاغْفِرْ لَنَا، اللَّهُمَّ أَلْهِمْنَا ذِكْرَكَ وَوَفِّقْنَا لِلْقِيَامِ بِحَقِّكَ وَبَارِكْ لَنَا فِي الْحَلالِ مِنْ رِزْقِكَ وَلا تَفْضَحْنَا بَيْنَ خَلْقِكَ يَا خَيْرِ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وَأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ، يَا قَاضِيَ الْحَاجَاتِ وَمُجِيبَ الدَّعَواتِ هَبْ لَنَا مَا سَأَلْنَاهُ وَحَقِّقْ رَجَاءَنَا فِيمَا تَمَنَّيْنَاهُ يَا مَنْ يَمْلِكُ حَوَائِجَ السَّائِلِينَ وَيَعْلَمُ مَا فِي ضَمَائِرِ الصَّامِتِينَ أَذِقْنَا بَرْدَ عَفْوِكَ وَحَلاوَةَ مَغْفِرَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
|