الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان
.فصل في بيان آفة الكبر: اعْلَمْ وَفَّقَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ آفَة الْكِبْرِ عَظِيمَةٌ وَفِيهِ يَهْلِكُ الْخَوَّاصُ وَقَلَّمَا يَنْفَكُ عَنْهُ الْعُبَّاد وَالزُّهَادُ وَالْعُلَمَاءُ وَكَيْفَ لا تعظم آفُتُهُ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لا يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّة لأَنَّهُ يحول بين الْعَبْد وبين أَخْلاق الْمُؤْمِنِينَ لأن صاحبه لا يقدر أنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ فلا يَقْدِرُ على التَّوَاضُعِ وَلا عَلَى تَرْكِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغَضَبِ وَلا عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَقُبُولِ النُّصْحِ وَلا يَسْلِمْ مِنْ الازْدِرَاءِ وَالاحْتِقَارِ لِلنَّاسِ وَاغْتِيَابِهِمْ فَمَا مِنْ خُلُقٍ شَيْءٍ ذَمِيمٍ إِلا وَهُوَ مُتَّصِف به ومُضْطَرٌ إِلَيْهِ وَقَدْ شَرَحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم الْكِبْر فقَالَ: «الْكِبْر بَطَر الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ». وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُجْبَ يَدْعُوا إِلَى الْكِبْرِ تَتَوَلَّدُ الآفَاتُ الْكَثِيرَةُ وَهَذَا مَعَ الْخَلْقِ فَأَمَّا مَعَ الْخَالِقِ فَإِنَّ الْعُجْبَ بِالطَّاعَاتِ نَتِيجَةِ اسْتِعْظَامُهَا فَكَأَنَّهُ يَمُنُّ عَلَى اللهِ تَعَالَى بِفِعْلِهَا وَيَنْسَى فَضْلَ اللهِ وَنِعْمَتَه عَلَيْهِ بِتَوْفِيقِهِ لَهَا وَيَعْمَى عَنْ آفَاتِهَا الْمُفْسِدةِ لِهَا.نَظَرَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِلَى وَالٍ ظَالِم استقبلهَ النَّاسُ بِالتَّبْجِيلِ وَالتَّعْظِيمِ فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ سُرُور الدُّنْيَا وَخِزْي الآخِرَة.وَقَالَ آخر:إنما هَلَكَ مَن كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطِهِمْ الظُّلْم حَتَّى يفتدى مِنْهُمْ.كَانَ عُمر بن عَبْد الْعَزِيز يجعل كُلّ يوم من ماله دِرْهَمًا فِي طعام الْمُسْلِمِين الفقراء ويأكل معهم.وَقَالَ عُمَر بن الْخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ألا وإنِّي نَزَّلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ كَافِلِ الْيَتِيم إِنْ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ وَإِنْ افْتَقَرْتُ أَكَلْتُ بِالْمَعْرُوف.ودخل بَعْضهمْ على سلمان الفارسي رضي الله عنه وَهُوَ والٍ على المدائن فوجَدَهُ يَعْمَل الخُوصَ بِيَدِه يُسَوِّي مِنْهُ قُفَفًا لِيَبِيعَهَا وَيَتَقَوَّتُ بِهَا.فَقَالَ لَهُ: تَعْمَلُ هَذَا وَأَنْتَ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدَائِن وَيَجْرِي عَلَيْكَ الرِّزْقَ.فَقَالَ سلمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنِّي اشْتَرِي بدرهم خوصًا سَعَفُ النخل فأعمله قُفَفًا فأبيعه بثلاث.أُنْفِقُ دِرْهَمًا عَلَيَّ وَعَلَى عِيَالِي وَأَتَصَدَّق بِدِرهمٍ وَأُعِيدُ دِرْهَمًا فِيهِ وَاللهِ إنِّي أحِبُّ أَنْ آكل مِنْ عَمَلِ يَدِي.ورآه بَعْض النَّاس فِي الطَرِيق وظنه من جملة الْحَمَامِيل الْفُقَراء فقَالَ: احْمِلْ لي هَذَا فَحَمَلَ لَهُ أَمْتِعَتَهُ وَمَشِيَ مَعَهُ فِي السُّوق، وَكُلَّما صَادَفَ إِنْسَانًا سَلَّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِير وَالْمَقَاضِي عَلَى رَأْسِهِ فَاسْتَغْرَبَ الرَّجُلَ ذَلِكَ وَخَجَلَ مِنْهُ وَقَالَ لِسَلْمَانَ: مَن الأَمِير؟ قَالَ: أَنَا. فَأَخَذَ يَعْتَذِرُ وَيَطْلُبه السَّمَاحَ وَيَقُولُ: أَعْطِني مَتَاعِي جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا.قَالَ: لابد مِنْ حَمْلِهِ أَنَا خَادِمٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَأَبَى إِلا أَنْ يُوصِلَ الأَمْتِعَةِ إِلَى بَيْتِ صَاحِبِهَا.قِيْلَ لِعُمَرَ بن عَبْدِ الْعَزِيز جَزَاكَ اللهُ عَن الْمُسْلِمِين خَيْرًا فقَالَ: بَلْ جَزَى الْمُسْلِمِين عَنِّي خَيْرًا.وَأَتَى إِلَيْهِ مَظْلُومٌ مِنْ الْيَمَنِ فَكَتَبَ لِعَامِلِهِ بِالْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ حَقَّهُ وَيُنْصِفَه مِمَّنْ ظَلَمَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَظْلُومِ: كَمْ نَفَقَتُكَ مِن الْيَمَنِ إِلَى هُنَا وَهَلْ بَلي مِنْ أَثْوَابِكَ شَيْء ثُمَّ دفعها إليه.وَأَتَى إِلَيْهِ فَقِير وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اشْتَدَّتْ بِي الْحَاجَةُ وَبَلَغَتْ بِي الْفَاقَةُ واَللهُ سَائِلُكَ عَنْ مَقَامِي هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَبَكَى عُمَر حَتَّى بَلَّ الْقَضِيبَ الَّذِي يَتَّكِئُ عَلَيْهِ فَقَالَ: كَمْ عِيَالكَ؟ قَالَ: خَمْسَة أَنَا وَامْرَأَتِي وَثَلاثَةُ أَوْلاد. فقَالَ عُمَرُ: فَرَضْنَا لَكُمْ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي الشَّهْرِ وَنَأْمُرُ لَكَ بِخَمْسِمَائَةِ دِرْهَمْ مَائتين مِنْ مَالِي وَثَلاثمائة مِنْ مَالِ اللهِ حَتَّى تَتَبَلَّغَ بِهَا حَتَّى يَخَرَجَ عَطَاؤك.وَقُدِّمُ لَهُ هَدِيَّةٍ وَقَالُوا لَهُ: أقْبَلْهُاَ فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةِ، فقَالَ: كَانَتْ لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم هَدِيَّة وَهِيَ الآنَ لَنَا رِشْوَة وَرَفَضَهَا.وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.فصل:بَعْدَ الصُّلْحِ بَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ وَالرُّوم قَدَّمَ قَائِدٌ رُومَانِي طَعَامًا فَاخِرًا لأَبِي عُبَيْدَةَ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَتُطْمِعُونَ الْجُنْدَ مِثْلَ هَذَا. قَالَ: لا.فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: لا حَاجَةَ لَنَا فِيمَا يَقْتَصِرُ عَلَيْنَا بِئْسَ أَبُو عبيدة وَقَدْ صَحِبَهُ جُنْدٌ مِن بِلادِهِمْ لِيُهْرِقُوا دِمَاءَهُمْ أَوْ لم يُهْرِقُوا فَاسْتَأْثَرَ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بشَيْء لا نأكل إلا مِمَّا يأكلون.رَكَبَ الْوَزِيرُ عَلِيُّ بنُ عِيسَى الظَّالِم فِي مَوْكِبٍ عَظِيم فَقَالَ النَّاس: مَنْ هَذَا مَنْ هَذَا؟ فَقَالَتْ امرأةٌ: لِمَ تَقُولُونَ مَنْ هَذَا. هَذَا عَبْدٌ غَرَّهُ الشَّيْطَانُ فَسَقَطَ مِنْ عَيْنِ اللهِ تَعَالَى فَابْتَلاهُ اللهُ بِمَا تَرَوْنَ فَرَجَعَ الْوَزِيرُ إِلَى مَكَّة تَائِبًا مُجَاوِرًا.كَتَبَ وَالٍ لِعُمَر بن عَبْد الْعَزِيز إِنَّ قَوْمًا اخْتَلَسُوا مَالَ الدَّوْلَةِ فَأْذَنْ لِي فِي عِقَابِهِمْ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَيْهِ لا تَظُنَّ أَنَّ رِضَائِي عَلَيْكَ وَمَشُورَتِي تُنْجِيكَ مِنْ عَذَابِ اللهِ، لِذَا مِنْ أَقَرَّ مِنْهُمْ فَجَازِهِ بِمَا يَسْتَحِق وَمَنْ أَنْكَر فَاسْتَحْلِفه وخلِّ سَبِيلَهُ فَلَعُمْرِي لأَنْ يلقَوُا اللهَ بِخِيَانَتِمِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أُلْقَى اللهَ بِدِمَائِهِمْ.وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أَهلك مَنْ كَانَ قَبْلَنَا بِحَبْسِهِمْ الْحَقِّ حَتَّى يشتَرَى مِنْهُمْ وَبِبَسْطهم الظُّلْمِ حَتَّى يُفْتَدَى مِنْهُمْ..موعظة: عِبَادَ اللهِ سُرُورَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَعْبُرُون الْقَنَاطِرَ وَيَأْمَنُونَ الْعَوَاثِرَ فَذَلِكَ يَوْمُ عِيدِهِمْ وَمَا دَامُوا فِي دَارِ الْغُرُورِ فَلا غِبْطَةَ وَلا سُرُورَ.وَأَيَّ سُرُورٍ لِمَنْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَاصِيَتِهِ وَالذُّنُوبُ رَاسِخَةٌ فِي آنِيَتِهِ وَالنَّفْسُ تَقُودُهُ إِلَى هَوَاهَا وَالدُّنْيَا تَتَزَيَّنُ فِي عَيْنِهِ بِمُشْتَهَاهَا.وَالشَّيْطَانُ مُسْتَبْطِنٌ فَقَارَ ظَهْرِهِ لا يَفْتَرُ عَنْ الْوَسْوَسَةِ فِي صَدْرِهِ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ بعَرْضِهِ لِلْحَوَادِثِ وَلا يَدْرِي فِي كُلِّ نَفَسٍ مَا عَلَيْهِ حَادِث.قَالَ بَعْضُهُمْ:وَمِنْ وَرَائِهِ الْمُغِير وَمَسْأَلة مُنْكَرٍ وَنَكِير وَيَتَوَسَّدُّ التُّرَابَ إِلَى يَوْمِ النُّشُور: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} يَوْمٌ لا يُبْلَغُ وَصْفُ أَهْوَالِهِ وَلا شَرْحُ أَحْوَالِهِ مَا لا يَسَعُ الْمُؤمنَ بِهِ أَنْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَرَارٌ وَلا يَخْلُدُ إلى هَذِهِ الدَّار وَلا يَكُونُ لَهُ هَمٌ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا إِلا التَّقَرُّبُ بِأَنْوَاعِ الْقُرَبِ وَاجْتِنَابِ الْفَوَاحِش وَالرَّيْبَ وَإِقَامَةِ الدِّين الَّذِي فِي إِقَامَتِهِ النَّجَاةُ وَفِي تَضْيِيعِهِ الْعَطَب العَظِيم. فَوَائِد:تَعَرَّفْ إِلَى الله بِمَا تَعَرَّف به إِلَيْكَ بِمَا هُوَ أَهْلُه وَتَعَرَّفْ ما فَرَضَ عَلَيْكَ مَعْرِفَتَهُ مِنْ أَحْكَامِ شَرْعِهِ.ثَانِيًا: طَاعَتِهِ فِي فِعْلِ الواجبات وترك المحرمَاتَ.ثَالِثًا: أَنْ تَشْتَاقَ إِلَى مَا شَوَّقَ إِلَيْهِ وَتَخَافَ مَا خَوَّفَ مِنْهُ لأَن العَالِم بأسماء اللهِ وصِفَاتِه وَأَحْكَامِهِ من أعْلم العَالِمين.وَالْعَامِلُ بِطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَهُ وَنَهَاهُ مِن أَعْمَلِ الْعَامِلِين.إِن لم تقدر على الْجَدِّ فِي الْعَمَل فَقِفْ على باب الطَّلب وَتَعَرَّضْ لِنَفْحَةٍ مِنْ نَفَحَاتِ الربِّ فَفِي لَحْظَةٍ أَفْلَحَ السَّحَرة.إِذَا رُزِقْتَ يَقَظَةً فَصُنْهَا فِي بَيْتِ عُزْلَةٍ فَإِنَّ أَيْدِي الْمُعَاشَرَةِ نَهَّابَةٌ وَاحْذَرْ مُعَاشَرَةِ الْبطَّالِينَ فَإِنَّ الطَّبْعَ لِصٌّ وَلا تُصَادِقَنَّ فَاسِقًا وَلا تَثِق إِلَيْهِ فَإِنَّ مَنْ خَانَ أَوَّلَ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لا يَفِي لَكَ أَبَدًا.تَزَيَّنَتْ الْجَنَّةُ لِلْخُطَّابِ فجدوا واجْتَهِدُوا فِي تحصيل المهور.تَعَرَّفَ رَبُّ الْعِزَّةِ لِلْمُحِبِّينَ فَعَمَلُوا لِلِقَاءِ وَأَنْتَ مَشْغُولٌ بِالْجِيَف.ما يُسَاوِي ربع دينار خجل الفضيحة فَكَيْفَ بِأَلِمَ الْقَطْعِ.لَيْسَ لِلْعَابِدِين مُسْتَرَاحِ إِلا تَحْتَ شَجَرَةَ طُوبَى.وَلا لِلْمُحِبِّينَ قَرَارٌ إِلا يَوْمَ الْمَزِيد فَمَثِّلْ لِقَلْبِكَ الاسْتِرَاحَة تَحْتَ شَجَرة طُوبَى يَهُنْ عَلَيْكَ النصب والتعب.وَاسْتَحْضِر يَومَ الْمَزِيد يَهُنْ عَلَيْكَ مَا تَتَحَمَّلُ مِنْ أَجْلِهِ.مَتَى رَأَيْتَ الْعَقْلَ يُؤَثِّرُ الْفَانِي عَلَى الْبَاقِي فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ مُسِخَ.وَمَتَى رَأَيْتَ الْقَلْب قَدْ ترحل عَنْهُ حب الله والاستعداد لِلقائه وحل فيه حب المخلوق والرِّضَا بالحياة الدُّنْيَا وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهَا فاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ خُسِفَ بِهِ.وَمَتَى أَقْحَطَتِ الْعَيْنُ مِن الْبُكَاء مِنْ خَشْيَةِ اللهِ تَعَالَى فَاعْلَمْ أَنَّ قُحْطَهَا مِن قَسْوَةِ الْقَلْب.وَمَتَى رَأَيْتُ نَفْسَكَ تَهْرَبُ مِن الأُنْسِ بِاللهِ إِلَى الأُنْسِ بِالْمَخْلُوق وَمِنْ الْخُلْوَة مَعَ اللهِ إِلَى الْخُلْوَة مَعَ الْمَخْلُوقِ فَاعْلَمْ أَنَّها لا تصلح لله.مَن رَكِبَ ظهر التفريط والتواني والكسل نَزَلَ بدارِ الْعُسْرَةِ والندامة.مَنْ أَدْلَجَ فِي غياهب الليل على نجائب الصبر صَبَّحَ منزل السرور.وَمَنْ نَامَ عَلَى فِرَاشِ الْكَسَلِ أَصْبَحَ مُلْقًا بِوَادِي الأَسَف.فائدة نفيسة:يَنْبَغِي لِطَالِبِ الْعِلْمِ أن يتأملها ويأخذ لمستقبله فِكرة، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاء: لَمْ أَزَلْ بُرْهَةً مِنْ عُمْرِي انْظُرُ اخْتِلافَ الأُمَّةِ وَالتمَسُ المنهاجَ الْوَاضحَ وَالسَّبِيل الْقَاصِدَ وَأطلبُ مِن الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ وَاسْتَدِلُ عَلَى طَرِيقِ الآخِرَة بِإِرْشَادِ الْعُلَمَاء.وَعَقَلْتُ كَثِيرًا مِن كَلام اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتَأَوِيلِ الْفُقَهَاءِ وَتَدَبَّرْتُ أَحْوَالَ الأُمَّةِ وَنَظَرْتُ فِي مَذَاهِبِهَا وَأَقَاوِيلِهَا فَعَقَلْتُ مِنْ ذَلِكَ مَا قُدِّرَ لِي.وَرَأَيْت اخْتِلافَهُم بَحْرًا عَمِيقًا غَرِقَ فِيهِ نَاسٌ كَثِير وَسَلِمَ مِنْهُ عِصَابَةُ قَلِيلَة، وَرَأَيْتُ كُلَّ صَنْفٍ مِنْهُمْ يَزْعُمُ أَنَّ النَّجَاةَ لِمَنْ تَبِعَهُم وَأَن الْمَهَالِكَ لِمَنْ خَالَفَهَمْ. ثُمَّ رَأَيْتُ النَّاسَ أَصْنَافًا فَمِنْهُمْ الْعَالِمُ بِأَمْرِ الآخِرَة لِقَاؤُهُ عَسِير وَوُجُودُهُ عَزِيز. وَهُوَ يُعِدُّ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا لِثَوَاب الآخِرَة وَالْقُرْبِ مِنْ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.وَمِنْهُمْ الْجَاهِلُ فَالْبُعْد مِنْهُ غَنِيمَة.وَمِنْهُمْ الْمُتَشبَهُ بالْعُلَمَاءِ مَشْغُوفٌ بِدُنْيَاهُ مُؤَثِّرٌ لَهَا.وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ مَنْسُوبٌ إِلَى الدِّين مُلْتَمِسٌ بِعِلْمِهِ التَّعْظِيمَ وَالْعُلُوَّ، يَنَالُ بِالدِّينِ مِنْ عَرَض الدُّنْيَا.وَمِنْهُمْ حَامِلُ عِلْمٍ لا يَعْلَمُ تَأْوِيلَ مَا حَمَلَ.وَمِنْهُمْ الْمُتَشَبِّهُ بِالنُّسَّاكَ مُتَحَرٍّ لِلْخَيْرِ لا غِنَاءَ عِنْدَهُ وَلا نَفَاذَ لِعِلْمِهِ وَلا مُعْتَمَدَ عَلَى رَأْيِهِ.وَمِنْهُمْ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْعَقْلِ وَالدَّهَاءِ مَفْقُودُ الْوَرَعِ وَالتُّقَى.وَمِنْهُمْ شَيَاطِينُ الإِنْسَ عَنْ الآخِرَة يَصُدُّونَ وَعَلى الدُّنْيَا يَتَكَالَبُون وَإلى جَمْعِهَا يُهْرَعُونَ وَفِي الاسْتِكْثَارِ مِنْهَا يَرْغَبُونَ.فَهُمْ فِي الدُّنْيَا أَحْيَاء وَفِي الْعُرْفِ مَوْتَى.فَتَفَقَّدْتُ فِي الأَصْنَافِ نَفْسِي وَضِقْتُ بِذَلِكَ ذَرْعَا فَقَصَدْتُ إِلَى هُدَى الْمُهْتَدِين بِطَلَبِ السَّدَادِ وَالْهُدَى وَاسْتَرْشَدْتُ الْعِلْمَ وَأَعْمَلْتُ الْفِكْرَ وَأَطَلْتُ النَّظَر.فَتَبَيَّنَ لِي مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِجْمَاعِ الأُمَّةِ أَنَّ إتِّبَاعَ الْهَوَى يُعْمِي عَنْ الرُّشْدِ وَيُطِيلُ عَنْ الْحَقِّ وَيُطِيلُ الْمُكْثَ فِي الْعَمَى.فَبَدَأْتُ أَوَّلاً بِإسْقَاطِ الْهَوَى عَلَى قَلْبِي وَوَقَفْتُ عِنْدَ اخْتِلافِ الأُمَّةِ مُرْتَادًا لِطَلَبِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ.حَذَرًا مِنْ الأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ وَالْفِرْقَةِ الْهَالِكَةِ مُتَحَرِّزًا مِنْ الاقْتِحَام قَبْلَ الْبَيَانِ وَالتَمِسُ سَبِيلَ النَّجَاةِ لِنَفْسِي.ثُمَّ وَجَدْتُ بِاجْتِمَاعِ الأُمَّةِ فِي كِتَابِ اللهِ الْمُنَزَّل أَنَّ سَبِيلِ النَّجَاةِ فِي التَّمَسُّكِ بِتَقْوَى اللهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَالْوَرَعُ فِي حَلالِهِ وَحَرَامِهِ وَجَمِيع حُدُودِهِ. وَالإِخْلاص لله تَعَالَى بِطَاعَتِهِ.وَالتَّأَسِّي بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم فَطَلَبْتُ مَعْرِفَةَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ فِي الآثَارِ فَرَأَيْتُ اجْتِمَاعًا وَاخْتِلافًا وَوَجَدْتُ جَمِيعَهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى أَنَّ عِلْمَ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِاللهِ وَأَمره الْفُقَهَاءِ عِنْدَ اللهِ الْعَامِلِينَ بِرِضْوَانِهِ، الْوَرِعِينَ عَنْ مَحَارِمِهِ الْمُتَأَسِّينَ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْثِرِينَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا أُوَلئِكَ الْمُتَمَسِّكُونَ بِأَمْرِ اللهِ وَسُنَنِ الْمُرْسَلِينَ.فَالْتَمَسْتُ مِنْ بَيْنِ الأُمَّةِ هَذَا الصَّنْفَ الْمُجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ وَالْمُوصُوفِينَ بِآثَارِهِمْ وَاقْتَبَسْتُ مِنْ عِلْمِهِمْ فَرَأَيْتُهُمْ أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ، وَرَأَيْتُ عِلْمُهُمْ مُنْدَرِسًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «بَدَا الإِسْلامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَا». فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ وُهْم الْمُتَفَرِّدُونَ بِدِينِهِمْ.فَعَظُمَتْ مُصِيبَتِي لِفَقْد الأَوْلِيَاءِ الأَتْقِيَاءِ الأَبْرَار وَخَشِيتُ بَغْتَةَ الْمَوْتِ أَنْ يَفْجَأَنِي عَلَى اضْطِرَابٍ مِنْ عُمْرِي لاخْتِلافِ الأُمَّةِ، فَانْكَمَشْتُ فِي طَالِبِ عِلْمٍ لَمْ أَجِدْ لِي مِنْ مَعْرِفَتِهِ أَبَدًا وَلَمْ أُقَصِّرْ فِي الاحْتِيَاطِ.فَقُيِّضَ لِي الرَّءُوفُ بِعِبَادِهِ قَوْمًا وَجَدْتُ فِيهِمْ دَلائِلَ التَّقْوَى وَأَعْلامَ الْوَرَعَ وَإِيثَارَ الآخِرَة عَلَى الدُّنْيَا. وَوَجَدْتُ إِرْشَادِهُمْ وَوَصَايَاهُمْ مُوَافِقَةً لأَفَاعِيل أَئِمَّةِ الْهُدَى.وَوَجَدْتُهُمْ مُجْتَمِعِينَ عَلَى نُصْحِ الأُمَّةِ لا يُرَجُّونَ أَبدًا فِي مَعْصِيَتِهِ وَلا يُقَنِّطُونَ أَبَدًا مِنْ رَحْمَتِهِ.يَرْضُونَ أَبَدًا بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرْاءِ وَالرِّضَا وَالشُّكْرِ عَلَى النعماء يُحَبِبُونَ اللهَ إِلَى الْعَبْدِ بِذِكْرِهِمْ أيادِيه وَإِحْسَانِهِ وَيَحُثُّونَ الْعِبَادَ عَلَى الإِنَابَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظَمَتِهِ تَعَالَى عُلَمَاءُ بِعَظِيمِ قدرَتِهِ وَعُلَمَاءُ بِكِتَابِهِ وَسُنَّتِهِ فُقَهَاءُ فِي دِينِهِ عُلَمَاءُ بِمَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ وَرِعِينَ عَنْ الْبِدع وَالأَهْوَاءِ تَارِكِينَ لِلتَّعَمُّقِ وَالإِغلاءِ مُبْغِضِينَ لِلْجِدَالِ وَالْمِرَاءِ مُتَوَرِّعِينَ عَنْ الاغْتِيَابِ وَالظُّلْمِ مُخَالِفِينَ لأَهْوَائِهِمْ مُحَاسِبِينَ لأَنْفُسِهِمْ مَالِكِينَ لِجَوَارِحِهِمْ وَرِعِينَ فِي مَطَاعِمِهِمْ وَمَلابِسِهم وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ مُجَانِبِينَ لِلشُّبُهَاتِ تَارِكِينَ لِلشَّهَوَاتِ مُجْتَزِئِينَ بِالْبُلْغَةِ مِنْ الأَقْوَاتِ مُتَقَلِّلِينَ مِنْ الْمُبَاحِ مُشْفِقِينَ مِنْ الْحِسَابِ وَجِلِينَ مِنْ الْمَعَادِ عُلَمَاءُ بِأَمْرِ الآخِرَة وَأَقَاوِيلَ الْقِيَامَةِ رَاجِينَ مِنْ الْكَرِيمِ الْمَنَّانِ جَزِيلَ الثَّوَابِ وَخَائِفِينَ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَذَلِكَ أَوْرَثَهُمْ الْخَوْفَ الدَّائِمِ وَالْهَمَّ الْمُقِِيمِ فَشُغِلُوا عَنْ سُرُورِ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا فَتَبَيَّنَ لِي فَضْلُهُمْ وَاتَّضَحَ لِي نُصْحُهُمْ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُمْ الْعَامِلُونَ بِطَرِيقِ الآخِرَة وَالمتأسُونَ بِالْمُرْسَلِينَ وَالْمَصَابِيحِ لِمَنْ اسْتَضَاءَ بِهِمْ وَالْهَادُونِ لِمَنْ اسْتَرْشَدَ. اهـ.قُلْتُ: فَبِمِثْلِ هَؤُلاءِ إِنْ وجدُوا فَلْيَقْتَدِ الْمُقْتَدُونَ.وَاللهُ أَعْلَمُ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.فصل:قَالَ ابْنُ الْقَيِّم رَحِمَهُ اللهُ: لا يَكُونُ الْعَبْد مُتَحَقِّقًا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إِلا بِأَصْلَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا: الإِخْلاص لِلْمَعْبُودِ. وَالثَّانِي: الْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.وَالنَّاس مُنْقَسِمُونَ بِحَسَبِ هَذَيْنِ الأَصْلَيْنِ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ أَحَدُهُمْ أَهْل الإِخْلاصِ لِلْمَعْبُودِ وَالْمُتَابَعَةِ لِلرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ إِيَّاكَ نَعْبُدُ حَقِيقَةً.فَأَعْمَالُهُمْ كُلّهَا لله، وَأَقْوَالهُم للهِ، وَحُبُّهم للهِ، وَبُغْضُهُمْ للهِ.فَمُعَامَلَتُهُمْ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِوَجْهِ اللهِ وَحْدَهُ لا يريدون بذَلِكَ من النَّاس جَزَاءً وَلا شُكُورَا.وَلا ابْتِغَاءَ الْجَاهِ عِنْدَهُمْ وَلا طَلَبَ الْمَحْمَدَةِ وَالْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ وَلا هَرَبًا مِنْ ذَمِّهِمْ، بَلْ قَدْ عَدُوا أنفسهم من أصحابِ القبُور لا يملكون لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا ولا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورَا.فَالْعَمَل لأجل النَّاسِ وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع مِنْهُمْ لا يكون من عارف بِهُمْ البتة، بل من جاهل بشأنهم وجاهل بربه فمن عرف النَّاس أنزلهم منازلهم، ومن عرف الله أخلص لَهُ أعماله وأقواله وعطاءه منعه وحبه ويغصه، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بِاللهِ وجهله بالخلق، وإلا فإذا عرف الله وعرف النَّاس آثر معاملة الله على معاملتهم.القسم الثاني: من لا إخلاص لَهُ ولا متابعة فلَيْسَ عمله موافقا للشرع، ولَيْسَ هُوَ خالص للمعبود كأعمال المتزينين للناس المرائين لَهُمْ بما لم يشرعه الله ورسوله، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، ولهم أوفر نصيب من قوله تَعَالَى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، يفرحون بما أتوا من البدعة، والضلالة، والشرك، ويحبون أن يحمدوا بإتباع السُنَّة والإِخْلاص.وَهَذَا القسم يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إِلَى العلم والفقر والعبادة عَنْ الصراط المستقيم، فَإِنَّهُمْ يرتكبون البدع والضلالات والرياء والسمعة ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الإتباع والإِخْلاص والعلم فهم أَهْل الْغَضَب والضلال.القسم الثالث من هُوَ مخلص فِي أعماله لكنها على غير متابعة الأَمْر كجهال العباد والمنتسبين إِلَى طَرِيق الفقر والزهد، وكل من عَبْد اللهِ بغير أمره واعتقَدْ عبادته هَذِهِ قربة إِلَى الله فهَذَا حاله، كمن يظن أن سماع المكاء والتصدية قربة وأن الْخُلْوَة التي يترك فيها الْجُمُعَة والجماعة قربة، وأن مواصلة صوم النَّهَارَ بالليل قربة وأن صيام يوم يفطر النَّاس كلهم قربة وأمثال ذَلِكَ.القسم الرابع من أعماله على متابعة الأَمْر لكنها لغير الله كطاعة المرائين وكالرجل يقاتل رياء وحمية وشجاعة ويحج ليقَالَ، ويقرأ القرآن ليقَالَ، فهؤلاء أَعْمَالُهُمْ ظاهرها أعمال صَالِحَة مأمور بها لكنها غير صَالِحَة فلا تقبل، قَالَ الله جَلَّ وَعَلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر.. انتهى كلامه رَحِمَهُ اللهُ.اللَّهُمَّ ثَبِّتْ محبتك فِي قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ صلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.فصل:قَالَ بَعْضُهُمْ: أعز الأَشْيَاءِ فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص. قِيْل: لما صار أعز. قَالَ: لأنه لَيْسَ للنفس فيه نصيب. وقَالَ آخر: أعز شَيْء فِي الدُّنْيَا الإِخْلاص وَكَمْ اجتهد فِي إسقاط الرياء عَنْ قلبي فكأنه ينبت فيه على لون آخر.فالإِخْلاص فِي غاية الصعوبة فلِذَلِكَ نجد كثيرًا من النَّاس يشرح أعماله للناس يذكر صدقاته وصيامه وصيام التطوع وَكَمْ حج من سُنَّة وَكَمْ عمرة اعتمر وَهُوَ ما سئل وأنه يحيي الليل بالصَّلاة والتلاوة.ويذكر الَّذِينَ يساعدهم بجاهه وماله يريد بذَلِكَ المنزلة فِي قُلُوب العباد وأنه من المحسنين وَهَذَا غلط وضرر عَلَيْكَ فما دمت تعمل لله فما الداعي إِلَى ذكره لمن لا يملكون لا نفسهم ضرًا ولا نفعًا ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورَا، فالرياء تعب ونصب ولغوب وخسران وذل فِي الدُّنْيَا وخزي وفضيحة وعذاب وندامة فِي الآخِرَة.فالعاقل يعمل الْعَمَل خالصًا لله لا لأجل الخلق ولا لأجل النفس وإلا دخل عَلَيْهِ مطالبه العوض أَوْ تشوق إِلَى حظ من حظوظ الدُّنْيَا.والمهم أن يحرص على إخفاء أعماله لأن الجزاء عَنْدَ من يعلم السِّرّ وأخفى لا إله إلا هُوَ، إلا إن ترجحت مصلحة الإظهار على الإخفاء كَانَ يقتدي به فِي الصدقة أَوْ الزَّكَاة لإِزَالَة التهمة عَنْهُ بعدم إخراجها. قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ}.عن أَنَس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «من فارق الدُّنْيَا على الإِخْلاص لله وحده لا شريك لَهُ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكَاة فارقها والله عَنْهُ راض». رَوَاهُ ابن ماجه والحاكم وقَالَ: صحيح على شرط الْبُخَارِيّ ومسلم.وعن معاذ بن جبل رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنه قَالَ حين بعث إِلَى اليمن: يَا رَسُولَ اللهِ أوصني قَالَ: «أخلص دينك يكفيك الْعَمَل القليل». رَوَاهُ الحاكم وقَالَ: صحيح الإسناد.وعن ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «طُوبَى للمخلصين أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كُلّ فتنة ظلماء». آخر: وعن زيد بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «نضر الله امرئً سمَعَ منا حديثًا فبلغه غيره فرب حامل فقه إِلَى من هُوَ افقه منه ورب حامل فقه لَيْسَ بفقيه، ثلاث لا يغل عَلَيْهمْ قلب مُسْلِم إخلاص الْعَمَل لله ومناصحة ولاة الأَمْر ولزوم الجماعة فَإِنَّ دعوتهم تحيط من ورائهم، ومن كَانَتْ الدُّنْيَا نيته فرق الله عَلَيْهِ أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأتيه من الدُّنْيَا إلا ما كتب لَهُ، ومن كَانَتْ الآخِرَة نيته جمَعَ الله أمره وجعل غناه فِي قَلْبهُ وأتته الدُّنْيَا وهي راغمة». رَوَاهُ ابن حبان وَرَوَاهُ أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.وعن الضحاك بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك وتَعَالَى يَقُولُ: أَنَا خَيْر شريك فمن أشرك معي شريكًا فهو لشريكي، يَا أيها النَّاس أخلصوا أعمالكم فَإِنَّ الله تبارك وتعالى لا يقبل من الْعَمَل إلا ما خلص لَهُ». أَخْرَجَهُ الْبَزَّار بإسناد لا باس به.وورد عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إن الله عَزَّ وَجَلَّ لا يقبل من الْعَمَل إلا ما كَانَ خالصًا وابتغى به وجهه». رَوَاهُ أبو داود والنسائي.وعن أبي الدرداء رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدُّنْيَا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما ابتغى به وجهه». أَخْرَجَهُ الطبراني بإسناد لا بأس به.سئل الفضيل بن عياض ما أخلص الْعَمَل وما أصوبه، قَالَ: إن الْعَمَل إِذَا كَانَ خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل وَإِذَا كَانَ صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل حَتَّى يكون خالصًا صوابًا والخالص أن يكون لله والصواب أن يكون على السُنَّة. آخر: آخر: اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأَبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسُنَّة وَفِي الآخِرَة حسُنَّة وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
|