الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **
فيها سار الملك المسعود ابن السلطان الملك الكامل من الديار المصرية عندما بلغه موت صاحب البحرين سيف الإسلام فاستولى على إقليم اليمن بغير حرب. وفيها استولى خوارزم شاه على غزنة وهرب ملكها إلى نهاوند ثم جمع وحشد والتقى صاحب غزنة. وفها انهزم الذي غلب على همدان والري وأصبهان ثم قتل. وفيها توفي الحافظ عبدالله بن سلمان الأندلسي وكان موصوفًا بالاتقان حافظًا لأسماء الرجال صنف كتابًا في تسمية شيوخ البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي ولم يكمله وكان إمامًا في العربية والترسل والشعر ولي قضاء إشبيلية وقرطبة وأدب أولاد المنصور صاحب المغرب. وفيها توفي الحافظ عبد القادر الرهاوي كان مملوكًا لبعض أهل الموصل فأعتقه وحبب إليه فن الحديث فسمع الكثير وصنف وجمع وله الأربعون المتباينة الإسناد والبلاد وهو شيء ما سبقه إليه أحد ولا يرجوه بعده محدث لخراب البلاد سمع وهمدان وهراة ومرو ونيسابور وسجستان وبغداد ودمشق ومصر. وقال ابن خلكان: كان حافظًا ثبتًا كثير التصاينف ختم به الحديث وقال أبو أسامة: كان صالحًا مهيبًا زاهدًا خشن العيش ورعاء ناسكًا. وفيها توفي الوجيه المعروف بابن الدهان المبارك بن المبارك النحوي الضرير الواسطي قرأ القراءات واشتغل بالعلم وسمع الحديث من أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وتفقه على مذهب أبي حنيفة بعد أن كان حنبليًا ثم انتقل إلى مذهب الشافعي لما شعر المجلس تدريس النحو بالنظامية وشرط الواقف أن لا يفوض إلا إلى الشافعي المذهب وفي ذلك يقول أبو البركات المؤيدين يزيد التكريتي: من مبلغ عني الوجيه رسالة وإن كان لا تجدي إليه الرسائل وما اخترت رأي الشافعي تدينا ولكنما يهوي الذي منه حاصل وعما قليل أنت لا شك صائر إلى ملك فأفطن لما أنت قائل وللوجيه المذكور تصنيف في النحو وله شعر ومنه قوله: ولست أستفتح اقتضاك بالوعد وإن كنت سيد الكرماء فإله السماء قد ضمن الرزق عليه ويقتضي بالدعاء وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير أبو الحسن علي بن حميد الصعيدي المعروف بابن الصباغ صاحب أحوال سنية ومقامات علية وأنفاس صادقة وكرامات خارقة وفضائل جليلة ومواهب جزيلة صحب الشيخ الكبير عبد الرحيم القناوي وتخرج به وكان والده صباغًا وكان يريد أن يكون ولده صباغًا مثله ولا يرى بما هو عليه من الاشتغال بسلوك طريق الصوفية حتى كان بعض الأيام فاشتد غضبه عليه وخاصمه كما اقتضى الوقت وهو مشتغل عن الصباغ والثياب على حالها لم يصبغها وعنده أزيار متعددة فيها أصباغ مختلفة الألوان يصبغ كل ثوب في زير منها على حسب ما يطلب صاحبه من ألوان الصبغ فأخذوا أبو الحسن مجموع الثياب وطرحها في زيرواحد فصاح والده وإنغاظ عليه غيظًا شديدًا وقال: أتلفت ثياب الناس فأدخل أبو الحسن يده في الزير وأخرجها جميعها وكل واحد منها مصبوغ باللون الذي أراد صاحبه فعند ذلك اندهش عقل والده وهاله ما رأى من تلك الكرامة التي ظهرت عليه وسلم له حاله واعتقد ما هو مائل إليه من السلوك لطريق الصوفية وخلاه من تلك الصنعة بالكلية ولما انتهى حاله وصار من أجلاء المرادين التمس منه الصحبة خلايق من المريدين وكان لا يصحب إلا من يراه مكتوباً في اللوح المحفوظ من أصحابه فجاءه إنسان يطلب منه الصحبة وخدمة الفقراء في بعض الوظائف فأطرق الشيخ ساعة ثم رفع رأسه وقال: ما بقي عندنا وظيفة فقال: يا سيدي لا بد أن تفكر لي في خدمة فقال: ما عندنا خدمة إلا إن كنت تذهب وتأتي كل يوم بحزمة من الحلفاء قال: نعم يا سيدي فصار كل يوم يأخذ المحش ويأتي بحزمة منها فلما كان بعد مدة أوجعته يده فرمى بالمحش وترك الفقراء وذهب فبينا هو في بعض الطريق رأى في منامه كأن القيامة قامت والناس يجوزون على الصراط فمنهم الناجي ومنهم الواقع في النار نسأل الله السلامة فلم يقدر يجوز وبقي في خطر عظيم يكاد يقع فيها فطلب شيئًا يستمسك فلم يجد وبقي متحيرًا مشرفًا على الهلاك وإذا حزمة من حزم الحلفاء تحته في النار مارة عليها فرمى بنفسه فوقها حتى أخرجته منها ناجيًا بلطف الله تعالى فاستيقظ مرعوبًا من هول ما رأى فرجع إلى الشيخ فلما وقع بصر الشيخ عليه قال له: ما قلنا لك ما عندنا خدمة تصلح لك سوى قطع الحلفاء فاستغفر الله وعاد ما كان عليه وكان ابن الصباغ المذكور جليلاً وناهيك لجلالته أن الشيخ الكبير الجليل القدر الشهير أبا عبدالله القرشي لما مات شيخه أصابته وحشة فذهب إليه وتأنس به رضي تعالى عنه مع الجميع منهم ونقضا بهم.
فيها قيل: وقع بالبصرة برد أصفر كالتارنجة الكبيرة وأكبره ما يستحيي الإنسان أن يذكره وفيها: توفي العلامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي المعروف البغدادي المولد والمنشأ والدمشقي الدار: والوفاة النحوي اللغوي المقري أكمل القراءات العشرة وله عشرة أعوام.قال بعضهم: وهذا ما لا أعلمه تهيأ لأحد سواه أتقن القراءات والعربية على جماعة وقال الشعر الجيد ونال الجاه الوافر فإن الملك المعظم كان قديم الاشتغال عليه وكان ينزل من القلعة إليه وكان أوحد عصره في فنون الأدب وعلو السماع لقي جلة المشائخ وأخذ عنهم منهم الشريف أبو السعادات بن الشجري وأبو محمد بن الخشاب وأبو منصور بن الجواليقي استوطن بدمشق بعد أسفار سافرها وقصده الناس وأخذوا عنه وله كتاب نسخه على حروف المعجم قال ابن خلكان: أخبرني أحد أصحابه أنه قال: كنت قاعدًا على باب ابن الخشاب النحوي ببغداد وقد خرج من عنده الزمخشري الإمام المشهور وهو يمشي في خشب لأن احدى رجليه كانت سقطت من الثلج والناس يقولون: هذا الزمخشري ونقل من خطه قال: كان الزمخشري أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه وبه ختم الله فضلاؤهم وكان محققاً بالاعتزال ورأيته عند شيخنا ابن الجواليقي مرتين قارئًا بعض كتب اللغة من فواتحها مستجيزا لها لأنه لم يكن له على ما عنده من العلم لقاء ولاراوية ولأبي اليمن شعر من جملته قوله حين طعن في السن: أرى المرء يهوى أن تطول حياته وفي طولها إرهاق ذل وإزهاق تمنيت في عصر الشبيبة أنني أعمر والأعمال لا شك أرزاق فلما أتاني ما تمنيت ساءني من العمر ما قد كنت أهوى وأشتاق تخيل لي فكري إذا كنت خاليًا ركوبي على الأعناق والسير أعناق ويذكرني مر النسيم وروحه ضمائر يعلوها من الترب أطباق وها أنا في إحدى وتسعين حجة لها في إرعاد مخوف وإبراق يقولون ترياق لمثلك نافع وما لي إلا رحمة الله ترايق هو أعلى أهل عصره سندًا. وفيها توفي الملك الظاهر صاحب حلب أبو الفتح غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان ملكًا عظيمًا مهييًا حازمًا متيقظًا كثير الاطلاع على أخبار الملوك وأحوال رعيته عالي الهمة حسن التدبير والسياسة باسط العدل ملقبًا بغياث الدين محباً للعلماء مجيزًا للشعراء ويحكي من سرعة ادراكه أشياء حسنة منها أنه جلس يومًا فعرض العسكر وكلما حضر واحد من الأجناد سأله الديوان عن اسمه حتى حضر واحد فسألوه فقبل الأرض فلم يفطن أحد منهم لما أراد فأعادوا سؤاله فقال الملك الطاهر: اسمه غازي وكان كذلك وإنما لم يذكر اسمه أدباً لكونه موافقًا الاسم السلطان المذكور. وفيها توفي الفقيه الإمام معين الدين محمد بن إبراهيم السهيلي الشافعي مؤلف الكافية في الفقه في مجلد كان إمامًا فاضلاً متفننًا مبرزًا وله كتاب ايضاح الوجيز في مجلدين أحسن فيه وله طريقة مشهورة في الخلاف والقواعد المشهورة المنسوبة إليه واشتغل عليه الناس وانتفعوا به وبكتبه من بعده خصوصًا القواعد فإن الناس أكبوا على الاشتغال بها توفي بكرة يوم الجمعة الحادي والعشرين من شهر رجب من السنة المذكورة. وفيها توفي العز محمد بن الحافظ عبد الغني المقدسي سمع وكتب الكثير وارتحل وكان سنة أربع عشرة وست مائة فيها سار خوارزم شاه في أربع مائة ألف راكب إلى أن وصل همدان قاصدًا بغداد ليتملكها ويحكم على الناصر لدين الله فاستعد الناصر وفرق الأموال والسلاح وراسله فلم يلتفت إليه قال الرسول: أدخلت إليه في خيمة عظيمة لم أر مثل دهيلزها والأطناب حرير وفي الخدمة ملوك العجم وما وراء النهر وهو شاب عليه شعرات قاعد على تخت وعليه قباء يساوي خمسة دراهم وعلى رأسه قلنسوة جلد يساوي درهمًا فسلمت فما رد ولا أمرني بالجلوس فخطبت وذكرت فضل بني العباس وأطنبت في فضل الخليفة والترجمان يخبره فقال: قل له هذا الذي تصفه ما هو في بغداد بل أنا أجيء وأقيم خليفة هكذا ثم ردنا بلا جواب واتفق أن نزل بهمدان ثلج عظيم أهلك خيلهم وركب هو يوماً فعثر به فرسه فتعطب وقلت الأقوات على جيوشه ولطف الله فردوا. وفيها تخربت الفرنج على الملك العادل ونزلوا على عين جالوت وقطعوا الشريعة وسبوا اليزك بالمثناة من تحت والزاي يعني الجرس وعانوا في البلاد وتهيأ أهل دمشق للحصار واستحث العادل ملوك النواحي على النجدة فرجعت الفرنج بالغنائم والسبي إلى نحو عكا هكذا أذكره الذهبي عكا بالألف وكانوا خمسة عشر ألفًا. وفيها توفي العماد المقدسي إبراهيم بن عبد الواحد أخو الحافظ عبد الغني قيل: وكان صواماً قوامًا صاحب أحوال وكرامات سمحًا متفضلاً ورعًا متواضعًا.وفيها توفي قاضي القضاة عبد الصمد بن محمد الأنصاري الخزرجي الدمشقي الشافعي سمع من الكبار ودرس وأفتى وبرع في المذهب وانتهى إليه علو الإسناد وكان صالحًا عبادًا من قضاة العدل. سنة خمس عشرة وست مائة فيها الملك الأشرف موسى كسر ملك الروم كيكاوس ثم أخذ عسكره وعسكر حلب خل بلاد الفرنج ليشغلهم عن دمياط فأقبل صاحب الروم لأعمال حلب وأخذ بعض نواحيها فقصده الملك الأشرف وقدم بين يديه العرب فكسروا والروم وهزموهم. وفيها التقى الملك المعظم الروم فكسرهم وقتل خلقًا وأسر مائة فارس ولكنه تمقت إلى الناس بإدارة المكوس والجبايات بدمشق واعتذر لما عنفوه بقلة المال وخرب بايناس وبعض البلاد مما يلي تلك الجهة وكانت قفلاً للشام وزعم أنه فعل ذلك خوفاً من استيلاء الفرنج وكذلك خرب قلعة منيعة كان قد أنشأها على الطور وعجز عن حفظها لإحتياجها إلى المال والرجال. وفيها توفي صاحب مصر والشام السلطان الملك العادل سيف الدين محمد ابن الأمير نجم الدين أيوب كان أخوه صلاح الدين يستشيره ويعتمد على رأيه لعقله ودهائه ثم تقلبت به الأحوال بقدرة القدير ذي الجلال واستولى على المالك وتسلطن ابنه الملك الكامل على الديار المصرية وابنه المعظم على الشام وابنه الأشرف على الجزيرة وابنه على خلاط وابن ابنه المسعود على اليمن وكان ملكًا جليلاً طويل العمر عميق الفكر بعيد الغور جماعًا للمال ذا حلم وسؤدد وله نصيب من صوم وصلاة وكان يضرب به المثل في كثرة أكله ولم يكن محببًا إلى الرعية لمجيئه بعد الدولتين النورية والصلاحية. قال الملك العادل: لما عزمنا على المسير إلى مصر احتجت إلى حرمدان يعني الذي يسميه الناس اليوم حمدان فطلبته من والدي فأعطاني وقال: يا أبا بكر إذا ملكتم مصر فاعطني ملؤه ذهبًا فلما جاء إلى مصر قال: يا أبا بكر أين الحرمدان فرحت وملأته من الدراهم السود وجعلت على أعلاه شيئا من الذهب وأحضرته إليه فلما آره اعتقده ذهباً فقلبه وظهرت الفضة السوداء فقال: يا أبا بكر تعلمت من دغل المصريين. ولما ملك صلاح الدين الديار المصرية كان ينوب عنه في حال غيبته في الشام واستدعي منه الأموال للانفاق في الجند وغيرهم فتقدم السلطان إلى العماد الأصفهاني إلى أن يكتب إلى أخيه الملك العادل يستحثه على انفاذها. حتى قال: يسير الحمل من مالنا أو من ماله ولما وصل إليه الكتاب شق عليه فشكا إلى القاضي الفاضل وكتب الفاضل جوابه ومن جملته وإمامًا ذكره المولى من قوله يسير الحمل من مالنا أو من ماله فتلك لفظة لم يكن المقصود بها النجمة وإنما المقصود بها من الكاتب السجعة وكم من لفظة فضة وكلمة فيها غلظة حيرت الأقلام وسدت خلل الكلام وخلف تسعة عشر ابنًا تسلطن منهم خمسة.الكامل والمعظم والأشرف والصالح وشهاب الدين غازي. وفيها توفي صاحب الموصل السلطان الملك القاهر عز الدين أبو الفتح مسعود بن السلطان نور الدين ارسلان شاه ابن المسعود الأتابكي وصاحب الروم السلطان الملك الغالب عز الدين بن كيكاوس. وفيها توفي محدث بغداد الحافظ أبو العباس أحمد بن أحمد البندنيجي.وفيها توفي الفقه أبو حامد محمد بن محمد العميدي الحنفي السمرقندي كان إماماً في فن الخلاف وهو أول من آفرده بالتضيف ومن تقدمه كان يمزجه بخلاف المتقدمين ومن تصانيفه أيضًا كتاب النفائس اختصره شمس الدين أحمد بن الجليل الفقيه الشافعي الجوني قاضي دمشق وسماه عرائس النفائس وكان كريم الأخلاق كثير التواضع طيب المعاشرة. وفيها توفي الفقيه العلامة عماد الدين أبو القاسم الدامغاني قاضي القضاة عبد الله بن حسين ولي القضاء بالعراق نحو ثمان سنين ثم عزل وأبو الفتوح محمد بن محمد بن محمد القرشي التيمي البكري الصوفي. وفيها توفيت أم المؤيد زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن الجرجاني الأصل النيسابوري الدار الصوفي المذهب المعروف بالشعري بفتح الشين المعجمة وسكون العين المهملة وكسر الراء كانت عالمة أدركت جماعة من العلماء وأخذت عنهم رواية واجازة منهم الإمام أبو المظفر بن عبد المنعم بن عبد الكريم القشيري والحافظ أبو الحسين عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي وأبو البركات ابن الإمام محمد بن الفضل الفزاري والعلامة أبو القاسم الزمخشري صاحب الكشاف وغيرهم. في أولها خرب الملك المعظم سور بيت المقدس خوفًا وعجزأ من الفرنج أن يملكه فشتت أهله وتضرروا وكان هو مع أخيه الكامل في كشف الفرنج عن دمياط وتمت لهم للمسلمين حروب وقتال كثير وجدت الفرنج في محاصرة دمياط وعملوا عليهم خندقًا كبيرًا وثبت أهل البلد ثباتًا لم يسمع بمثله وكثر فيهم القتل والجراح وعدمت الأقوات ثم سلموها بالأمان وتسارعت الفرنج من كل فج عميق وشرعوا في تحصينها وأصبحت دار هجرتهم وترجوا أخذ ديار مصر وأشرف الإسلام على الإنكسار والدمار وأقبل أعداء الله من المشرق والمغرب وأقبل المصريون على الجلاء فيهم الكامل إلى أن سار أخوه الأشرف كما سيأتي في سنة ثمان عشر وست مائة. وفيها توفي أبو البقاء عبدالله بن الحسين العكبري الضريري النحوي صاحب التصانيف أخذ النحو عن أبي محمد بن الخشاب وغيره من مشائخ عصره ببغداد وسمع الحديث من أبي الفتح محمد بن عبد الباقي المعروف بابن البطي ومن أبي زرعة طاهر بن محمد المقدسي وغيرهما ولم يكن في آخر عمره في عصره مثله في فنونه على ما قيل: وكان الغالب عليه علم النحو وتصانيفه مفيده منها شرح كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي وديوان المتنبي واعراب القرآن الكريم في جزأين وكتاب اعراب الحديث وكتاب شرح اللمع لابن جني وكتاب اللباب في علل النحو وكتاب اعراب شعر الحماسة وشرح المفصل للزمخشري شرحًا مفصلاً وشرح الخطيب النباتية والمقامات الحريرية وصنف في النحو والحساب واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا به واشتهر اسمه في البلاد في حياته وبعد صيته وحكى في شرح المقامات عند ذكر العنقاء أن أهل الرس كان بأرضهم جبل يقال له: دمح صاعد في السماء قد رميل وكانت به طيور كثيرة وكانت العنقاء طائرة عظيمة الخلق طويلة العنق لها وجه إنسان وفيها من كل حيوان شبه من أحسن الطير وكانت تأتي في السنة مرة هذا الجبل فتلتقط طيره فجاعت في بعض السنين وأعوزها الطير فانقضت على صبي فذهبت به فسميت عنقاء مغرب والمغرب الني يجيء بالغرائب لإبعادها بما تذهب به ثم ذهبت بجارية أخرى فشكى أهل الرسل إلى نبيهم حنظلة بن صفوان فدعا عليها فأصابتها صاعقة فاحترقت والله أعلم انتهى. قال بعض أهل العلم: هذا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس كان في زمن الفترة بين عيسى ونبينا صلوات الله وسلامه عليهما. وذكر بعض المؤرخين وهو الفرغاني نزيل مصر أن العزيز نزار بن المعز صاحب مصر اجتمع عنده من غرائب الحيوان ما لم يوجد عند غيره فمن ذلك العنقاء وهي طائر جاءه من صعيد مصر في طول البلسون وأعظم جسما منه له غبب ولحية وعلى رأسه وقاية وذكر الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار في باب الطير عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن الله تعالى خلق في زمن موسى طائرة اسمها العنقاء لها أربعة أجنحة من كل جانب ووجه كوجه الإنسان وأعطاها من كل شيء قسطًا وخلق لها ذكر أمثلها وأوحي إليه إني خلقت طائرين عجيبين وجعلت رزقهما في الوحوش التي حول بيت المقدس وأنستك بهما وجعلتهما زيادة فيما فضلت به بني إسرائيل فتناسلا وكثر نسلهما فلما توفي موسى عليه السلام انتقلت فوقعت بنجدوا الحجاز فلم تزل تأكل الوحوش وتخطف الصبيان إلى أن شكوها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فدعا الله تعالى فقطع نسلهما وانقرضت والله أعلم. قلت: وأما ما يقال في المثل في عدم وجود بعض الأشياء كالعنقاء يسمع بها ولا يرى على هذا يكون المراد بعدم رؤيتها بعد الانقراض المذكور. وقال بعضهم: شيئان يسمع بهما ولا يريان العنقاء والغول هكذا قيل قلت: ولكن قد حكي في رواية الغول حكايات كثيرة وإنها تتلون وإلى ذلك أشار كعب بن زهير في قوله: ولا تدوم على حال تكون بها كما تلون في أثوابها الغول وهي من سعالى الشياطين تعوذ بالله منهم وقد قيل: إنها تجيء بعض الناس في صورة امرأة حسناء ثم تسحره حتى يصير في صورة حمار فتركب عليه وتركضه إلى حيث شاء ثم تتركه أو ترده ثم تروح وتخليه وعلى لسان حال من وقع له هذا قلت أبياتًا في وصف الدنيا مشبهًا لها بالغول على طريق الخناس منها قولي. كغول ذي غول ذي خداع وجابي الأرض ركضًا ثم جابي سعى لي مع سعالى ثم دلى يد الماجري بي في جرابي ولي أهوى بما أهوى فلما ترقي في حرابي في حرابي رمى نحري لنحري ثم جهدي أنادي بالحرابي وأحرابي ومعنى قولي في البيت الأول وجابي الأرض من الوحي الذي هو الدق أي ركض بي وقولي في آخره: ثم جابي من المجيء أي ردني وفي البيت الثاني سعالى من سعى يسعى مع سعالى جمع سعلان لما جرى بي من الجري وفي جرابي الجراب المعروف ولي أهوى أي أخرج من الجراب شيئًا أهوى به إلي بما أهوى أي بما أحب والمعني أنه طمنني حتى أسكت خداعًا منه فلما ترقي في حرابي حرًا هو الجبل المبارك المعروف الذي ترقي فيه وفي حراب الثاني جمع حربة رمي نحري أي بتلك الحراب لنحري أي لقتلي كما ينحر الناقة معنى أنادي بالحرابي أي بالجهد والطاقة مني التي لا أقدر على غيرها وأحرابي من الحرب أي جهدي أقول واحرباه. شيخ المالكية.صاحب كتاب الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة وضعه على ترتيب وجيز الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى. قال ابن خلكان: والطائفة المالكية بمصر عاكفة عليه لحسنه وكثرة فوائده وكان مدرساً بمصر بالمدرسة المجاورة للجامع وتوجه لمجاهدة العدو لما أخذ دمياط فتوفي هناك رحمه الله كان من أكبار أئمة العالمين حج في أواخر عمره ورجع وامتنع من الفتيا إلى أن مات مجاهدًا في سبيل الله. وفيها توفي الحافظ علي بن القاسم ابن الحافظ الكبير أبي القاسم بن عساكر وصاحب سنجار الملك المنصور قطب الدين محمد بن عماد الدين زنكي وست الشام الخاتون بنت أيوب أخت الملك العادل توفيت في دمشق ودفنت في مدرستها الشامية.وفيها توفي أبو الفرج عبدالله بن أسعد بن علي المعروف بابن الدهان الموصلي الفقيه الشافعي المنعوت بالمهذب كان فيها أديبًا فاضلاً شاعرًا لطيف الشعر مليح السبك حسن المقاصد غلب عليه الشعر واشتهر به وله ديوان صغير وكله جيد وهو من أهل الموصل. لما ضاقت به الحال عزم على قصد الوزير بمصر الملقب الملك الصالح وعن استصحاب زوجته فكتب إلى نقيب العلويين بالموصل أبي طاهر زيد بن محط الحسيني هذه الأبيات. لجت فلما رأتني لا أصيخ لها بكت فأقرح قلبي خفتها الباكي قالت وقد رأت الأجمال محدجة والبين قد جمع المشكو والشاكي مالي إذا غبت في ذا المحل قلت لها: الله وابن عبيد الله مولاك لا تجزعي بانحباس الغيث عنك فقد سألت نواء الثريا جوف معناك فكفل بالشريف بن عبيدالله المذكور لزوجته بجميع ما تحتاج إليه مدة غيبته عنها فتوجه إلى مصر ومدح الصالح بقصيدته الكافية أولها. أما كفاك تلافي في تلافيكا ولست تنقم إلا فرط حبيكا ومنها: أأمدح الترك أبغي الفضل عندهم والشعر مازل عند لترك متروكا لانلت وصلك إن كان الذي زعموا ولا شفا ظمأى جود ابن رزيكا ابن رزيك بضم الراء وكسر الزاي المشددة وهو الممدوح وقال العماد الكاتب أنشدني: تردي الكتائب كتبه فإذا انبرى لم يمر أنفذا أسطرا أم عسكرا وفي معنى تشبيه القلم بالعسكر قول بعضهم: قوم إذا أخذوا الأقلام عن غضب ثم استمدوا بها ما المنيات سنة سبع عشرة وست مائة في رجب منها حصلت وقعة البرنس بين الكامل والفرنج وكان فتحًا نصر الله فيه المسلمين وقتل من الملاعين عشرة آلاف وانهزموا إلى دمياط. وفيها حج بالعراقيين مملوك الخليفة الناصر اشتراه بخمسة آلاف دينار وكان معه تقليد بمكة لحسن بن قتادة وكان أبوه قد مات في وسط العام فجاءه بعرفات فقال: أنا أكبر أولاد قتادة فولى فتوهم حسن أنه معزول فأغلق أبواب مكة فركب المملوك ليسكن الفتنة وقال: ما قصدي قتال فثار به العبيد والأشرار وحملوه فانهزم أصحابه فتقدم عبد فعرفت فرسه فذبحوه وعلقوا رأسه وأرادوا نهب العراقيين فقام في ذلك أمير الشاميين المعتمد والي دمشق ورد معه ركب العراق. وفيها أخذت التتار بالتاء المثناة من فوق مكررة قبل الألف وبعدها راء كثيرًا من البلدان منها بخارى وسمرقند ثم عبر نهر جيحون واستولى على خراسان قتلاً وسبيًا وتخريباً إلى حدود العراق بعد أن هزموا جيوش خوارزم ومزقوهم ثم عطفوا على قزوين فاستباحوها وكذلك استباحوا أذربيجان وحاصروا تبريز وبها أن البهلوان فبذل لهم أموالاً وتحفًا فرحلوا عنه وحاربوا الكرخ وهزموهم ثم ساروا إلى مراغة وأخذوها بالسيف ثم كروا نحو إربل فاجتمع لحربهم عسكر العراق والموصل مع صاحب إربل فهابوهم وعرجوا على همدان فحاربهم أهلها أشد محاربة في العام المقبل وأخذوها بالسيف وأحرقوها ثم نزلوا على بيلقان وأخذوها بالسيف وقتلوا ثم حاربوا الكرخ أيضًا وقتلوا منهم ثلاثين ألفًا ثم سلكوا طرقأ وعرة في الجبال إلى أن وصلوا بلاد اللان وفيها طوائف من الترك وقليل من المسليمن فالتقوا وكانت الدائرة على اللان فقتلوا وسبوا ومروا إلى أن وصلوا مدينة سوادق ولم يزالوا يطوون الأرض ويضربون إلى أن كلت أسلحتهم وتكلكلت أيديهم مما قتلوا من النساء والأطفال فضلاً عن الرجال وكان خوارزم شاه بطلاً مقدامًا وعسكره أوباشًا ليس لهم أقطاع ولا ديوان بل يعيشون من النهب والغارات وهم ما بين تركي كافر أو مسلم جاهل لا يعرفون تعبية العسكر في المصاف ولا أدمنوا إلا على المهاجمة وما لهم زرديات ولا عدة جيدة للحرب ثم أنه كان يقتل بعض القبيلة ويستخدم باقيها ولم يكن فيه شيء من المداراة لا لجنده ولا لعدوه ويحرش بالتتار وهم يغضبون على من يرضيهم فكيف من يبغضهم ويوذيهم! فخرجوا عليه وهم بنواب وأولو كلمة مجتمعة وقلب واحد ورئيس مطاع فلم يمكن خوارزم شاه أن يقف بين أيديهم ولكل أجل كتاب.وفي السنة المذكورة توفي قاضي القضاة زكي الدين محمد بن يحيى القرشي الدمشقي كان ذهيبة وسطوة وحشمة وكان الملك المعظم يكرهه فاتفق أنه طالب جابي العزيزية بالحساب فأساء الأدب عليه فأمر بضربه بين يديه فوجد المعظم سبيلاً إلى أذيته وبعث إليه بخلعة أمير قباء وكلوته وألزمه يلبسها في مجلس حكمه ففعل ثم قام فدخل ولزم بيته ومات كمدًا يقال: إنه رمي قطعًا من كبده ومات كهلاً فندم المعظم. وفيها توفي الشيخ المقدم أسد الشام عبدالله بن عثمان اليويثيني كان شيخًا مهيبًا طوالاً حاد الحال تام الشجاعة أمارًا بالمعروف نهاء على المنكر كثير الجهاد دائم الذكر عظيم الشأن منقطع القرين صاحب مجاهدات وكان الأمجد صاحب بعلبك يزوره وكان يهينه ويقول: يا مجيد أنت تظلم. وتفعل وتفعل وهو يعتذر إليه وقيل: كان قوسه ثمان عشرة رطلاً وكان لا يبالي بالرجال قلوا أم كثروا وكان ينشد هذه الأبيات ويبكي. شفيعي إليكم طول شوقي إليكم وكل كريم للشفيع قبول وعذري إليكم أنني في هواكم أسير وما سور الغرام ذليل فإن تقبلوا عذري فأهلاً ومرحبًا وإن لم تجيبوا فالمحب حمول سأصبر لا عنكم ولكن عليكم عسى لي إلى ذاك الجناب وصول قلت: ما أطنب الذهبي في كتابه العبر في مدح أحد من الشيوخ أرباب الأحوال العارفين بالله الرجال سوى في مدح الشيخ المذكور وفيها توفي شيخ الشيوخ أبو الحسن محمد ابن شيخ الشيوخ عمر بن علي الجويني برع في مذهب الشافعي ودرس وأفتى وسمع من يحيى الثقفي وأجاز له أبو الوقت وجماعة وكان كبير القدر ثم ولي بمصر تدريس الشافعي ومشهد الحسين وبعثه الكامل رسولاً يستنجد بالخليفة وجيشه على الفرنج فأدركه الموت بالموصل. وفيها توفي مسند خراسان المؤيد بن محمد رضي الدين أبو الحسن الطوسي المقري انتهى إليه علو الإسناد بنيسابور ورحل إليه من الأقطار وخوارزم شاه محمد ابن السلطان الكبير علاء الدين كان ملكًا جليلاً أصيلاً عالي الهمة واسع الممالك كثير الحروب ذا ظلم وجبروت وعز ودهاء.
فيها سار الملك الأشرف ينجد أخاه الكامل وسار معه عسكر الشام وخرجت الفرنج من دمياط بالفارس والراجل أيام زيادة النيل فنزلوا على ترعة فتوثق المسلمون عليها النيل فلم يبق لهم وصول إلى دمياط وجاء الأسطول فأخذوا مراكب الفرنج وكانوا مائة كند بالنون والدال المهملة المركب وثمان مائة فارس فيهم صاحب عكا وخلق من الرجالة فلما رأوا الغلبة بعثوا يطلبون الصلح ويسلمون دمياط إلى الكامل فأجابهم ثم جاء أخواه بالعساكر في رجب وعمل سماطًا عظيمًا وأحضر ملوك الفرنج فأنعم عليهم ووقف في خدمته الملك المعظم والأشرف وكان يومًا مشهوراً وقام راجح الحلي فأنشده قصيدة منها: ونادى لسان الكون في الأرض رافعًا عقيرته في الخافقين ومنشدا أعباد عيسى إن عيسى وحزبه وموسى جميعأ ينصران محمدا اشارة إلى الإخوة الثلاثة قلت: وما ألطف هذه الإشارة وأظرف هذه العبارة: وحسن سهولة هذا النظم وعذوبته وأشار بعيسى إلى الملك المعظم وبموسى إلى الملك الأشرف وبمحمد إلى الملك الكامل وحسن مطابقة الحال أن عيسى وموسى المذكورين كانا في خدمة محمد ومتابعة طاعته وتبجيله واحترامه كذلك موسى وعيسى صلوات الله على نبينا وعليهما لم يزالا في تبجيل محمد صلى الله عليه وآله وسلم واحترامه فلو كانا حيين ما وسعهما إلا متابعته كما ورد في الحديث وجاءت في هذه المطابقة أعظم تبكيت للفرنج الحاضرين بل لليهود والنصارى أجمعين فلما أحسن هذا الاتفاق العجيب والمعنى الغريب. وفيها توفى الشيخ الكبير السيد الشهير ذو المعارف والأسرار واللطائف والأنوار والمقامات العليات والأحوال السنيات والأنفاس الصادقات والكرامات الخارقات والقدر الجليل والعطاء الجزيل المحقق المحدث قدوة المحدثين وإمام السالكين ناصر السنه نجم الدين البكري رحل إلى الأقطار وتنقل في الأمصار ورأى المشائخ الجلة الكرام وحج بيت الله الحرام راكبًا وماشيًا وفضله لا يزال يسمو في الأيام فاشيًا. سمع الحديث والأخبار والتفاسير والاثار عمن لا يحصى كثرة ولبس خرقة الأصل من يد الشيخ العارف أبي الحسن إسماعيل القصري عن محمد بن مانكيل عن داؤد بن محمد المعروف بخادم الفقراء عن العباس بن إبن إدريس عن أبي القاسم بن رمضان عن أبي يعقوب الطبري عن عبدالله بن عثمان عن أبي يعقوب النهرجورفي عن أبي يعقوب السوسي عن عبد الواحد بن زيد عن كميل بن زياد عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولبس خرقة البترك من الشيخ أبي ياسر عمار بن ياسر التدليسي عن الشيخ أبي النجيب عبد القاهر بن عبدالله السهروردي عن أبيه عن عمه عمر بن محمد عن أبيه محمد بن عمويه عن أحمد بن سبا عن ممشاد الدينوري عن أبي القاسم الجنيد عن خاله السري السقطي عن معروف الكرخي عن داؤد الطائي عن الحبيب العجمي عن الحسن البصري عن علي رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واختلف في تسمية الشيخ نجم الدين الكبري فقال بعضهم: هو الكبرى مقصور وقال آخرون هو ممدود مفتوح الموحدة أي هو نجم الكبرى جمع تكسير الكبير قالوا والصحيح هو الأول ووجه صحته على ما ذكروا أنه كان أيام صباه شديد الذكاء فطنًا لم يلق مؤدبه إلى أقرانه في المكتب شيئًا من المشكلات إلا سبقهم بثاقب ذهنه فلقبوه الطامة الكبرى ثم غلب عليه ذلك اللقب فحذفوا الطامة ولقبوه بالكبرى وهو وجه صحيح نقله جماعة من أصحابه ممن يوثق بهم واستشهد رضي الله تعالى عنه بظاهر خوارزم في الوقعة العامة والفتنة التتارية في السنة المذكورة قال الراوي الشيخ الجليل كمال الدين العارف بالله السالك الحفيل المعروف بالسفناقي بالسين المهملة والفاء والنون وقبل ياء النسبة قاف من أصحاب الشيخ نجم الدين المذكور قال: لما وصل التتار إلى خوارزم سنة سبع عشرة وست مائة وحصروها جمع الشيخ أصحابه وهم أكثر من ستين وقد هرب السلطان محمد وهم يظنون أنه بها ودخلوا البلد وكان في أصحاب الشيخ المذكور الشيخ سعد الدين الحموي والشيخ علي لالا وابن أخيه علي بن محمد مع جماعة من العارفين فطلبهم الشيخ وقال لهم: قوموا وارتحلوا وارجعوا إلى بلادكم فإنه خرجت نار من المشرق وتحرق إلى قريب المغرب وهي فتنة عظيمة ما وقع في هذه الأمة مثلها فقال بعضهم: لو دعوت الله أن يرفع هذه الفتنة عن بلاد المسلمين فقال: هذا قضاء من الله تعالى حكم لا يرده ولا ينفع فيه الدعاء فقالوا: يا مولانا معنا دواب تركب معنا وتخرج الساعة فقال أني: أقتل هاهنا ولم يأذن الله لي أن أخرج منها فاستعدوا لخروجكم إلى خراسان فخرجوا ولما دخل الكفار إلى البلد نادى الشيخ في أصحابه الذين لم يأمرهم بالخروج للصلاة جامعة ثم قال: قوموا على اسم الله تقاتل في سبيل الله ودخل البيت ولبس خرقة شيخه وشد وسطه وكانت فرجية وجعل الحجارة في جانبيها وأخذ العنزة وخرج ولما واجههم أخذ يرميهم بالحجارة حتى فرغ جميع ما معه ورموه بالنبل فجرحوه وأخذ يدور ويرقص فجاءه سهم في صدره فنزعه ورمى به نحو السماء وفاز الدم من صدره فأخذ ينشد شعرًا بالعجمي من جملة معناه إن أردت فاقتلني بالوصال أو بالفراق فأنا فارغ عنهما محبتك تكفيني وما أنا حل إن قلت أغثني ثم توفي ودفن في رباطة رحمة الله تعالى ومما رثاه المؤيد بن يوسف الصلاحي فقال في أثناء مرثيته: زال جهد في مرضاة خالقه وما أعد له الرحمن ما كسبا من ذا رأى بحر علم في بحار دم يجري إذا ما طفت أنواره سببا يهوى النجوم الدراري من يكون لها يومًا نسيبًا تداتيه إذا انتسبا أبح يا أله الخلق نيل رضى لا يدرك الكنه منه حاسب حسبا وفيها توفي أبو نصر موسى بن شيخ محمود قطب الوجود مغدن الفضائل والمفاخر محيي الدين عبد القادر روى عن أبيه وسعيد بن البناء وابن ناصر وأبي الوقت وسكن دمشق رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو الدر ياقوت بن عبدالله الموصلي الكاتب أخذ النحو عن الدهان وقرأ عليه جملة من تصانيفه وديوان المتنبي والمقامات الحريرية وكان علامة وكتب الكثير وكان كاتباً مشهورًا منتشرًا خطه في البلاد في نهابة من الحسن ولم يكن في أواخر زمانه من يقاربه في حسن الخط ولا يودي طريقة ابن البواب في النسخ مثله مع فضل غزير ونباهة تامة وكان مغرمًا بنقل الصحاح للجوهري وكتب منها نسخًا كثيرة كل نسخة في مجلد واحد يباع بمائة دينار وكتب عليه خلق كثير وكانت له سمعة سائرة وقصده الناس من الأقطار وسير إليه من بغداد النجيب أبو عبدالله الواسطي قصيدة مدحه بها أولها: ابن غزلان عالج والمصلى من ظبا سكن نهر المعلى قلت هذا البيت وإن كان في النظم مليحًا فأراه في الأدب قبيحا لإستحقار غزلان المصلى: وفيها توفي الأمير أبو المحاسن العباس بن أحمد ابن الأمير سيف الدين أبي الحسن علي ابن أحمد بن أبي الهيجاء المعروف بابن المشطوب لشطب كان بوجهه وهو ملقب نعمة كان أميرًا وافر الحشمة والحرمة بين الملوك معدودًا بينهم كواحد منهم وكان عالي الهمة عزيز الوجود واسع الكرم شجاعًا أبي النفس تهابه الملوك وله وقائع مشهورة في الخروج عليهم وهو من أمراء الدولة الصالحية وجرت لهم أمور وتنقلات آخرها أن الملك الأشرف ابن الملك العادل قبض عليه في السنة المذكورة فاعتقله في قلعة حران وضيق عليه تضييقًا شديدًا من الحديد الثقيل في رجليه والخشب في يديه ولم يزل في تلك الحال إلى أن توفي في شهر ربيع الآخر منها ولما سجنه كتب إليه بعض الأدباء: يا أحمد ما زلت عمادًا للدين يا أشجع من ملك سيفًا بيمين لاتيئس إن حصلت في سجنهم يوسف قد أقام في السجن سنين وهذا مأخوذ من قول البحتري من جملة أبيات: أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسًا على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في السجن برهة فآل به الصبر الجميل إلى الملك قال ابن خلكان: ورأيت في بعض رسائل القاضي الفاضل أن الأمير سيف الدين المعروف بابن المشطوب كتب إلى الملك الناصر صلاح الدين يخبره بولادة امرأة عمه عماد الدين وإن عنده امرأة أخرى ذكر أنها حامل فكتب القاضي الفاضل جوابه وصل كتاب الأمير دالاً على الخبر بالولدين الحامل على التوفيق والسايل كتب الله سلامته في ا لطريق فسررنا بالغرة الطالعة من لثامها وتوقعنا المسرة بالثمرة الباقية في أكمامها قالت: رأيت بخط القاضي الفاضل ورد الخبر بوفاة الأمير سيف الدين المشطوب أمير الأكراد وكبيرهم سبحان الحي الذي لا يموت ويهدم به بنيان قوم والدهر قاض ما عليه لوم. قال ابن خلكان: هذا الكلام حل فيه بيت الحماسة: فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما قال: وهذا البيت من جملة مرثية رثي بها قيس بن عاصم التميمي الذي قدم من البادية على النبي صلى الله عليه واله وسلم في وفد تميم في سنة تسع من الهجرة وأسلم وقال صلى الله عليه واله وسلم في حقه: هذا سيد أهل الوبر لما وكان عاقلاً مشهوراً بالحلم والسؤدد وهو أول من وأد البنات في الجاهلية للغيرة والأنفة من النكاح وتبعه الناس في ذلك إلى أن أبطله الإسلام وقد قدمت ذكر ذلك ومن جملة المرثية المذكورة: عليك سلام الله قيس بن عاصم ** ورحمته ما شاء أن يترحما فما كان قيس هلكه هلك واحد ** ولكنه بنيان قوم تهدما قلت: وقوله: عليك سلام الله إن صح سماعه أو اسماعه ممن يقتدي به فهو شاهد بجواز قول كثير من الناس في مكاتباتهم سلام الله ورحمته وبركاته على فلان ابن فلان إلا ففي جواز ذلك نظر والله أعلم أعني كونه قال: سلام الله عليك فجعل السلام عليه من الله تعالى ولم يقل: مني وليس لجواز هذا شاهد يعتمد عليه. وقد اختلف العلماء في: هل يقال لغير الأنبياء عليه السلام فجوزه بعضهم ومنع الأكثرون فما علمت وقالوا: حكمه حكم الصلاة والذي أراه أنه يفرق بينه وبين الصلاة بين الترضي والصلاة مخصوصة على المذهب الصحيح بالأنبياء والملائكة والترضي خصوص بالصحابة والأولياء والعلماء أعني في الأدب والترحم لمن دونهم والعفو للمذنبين والسلام مرتبة بين مرتبة الصلاة والترضي فيحسن أن يكون منزلته بين منزلتين لكونه مرتبة بين مرتبتين أعني يقال لمن اختلف في نبوتهم كالخضر ولقمان وفي القرنين دون من دونهم. وفيها توفي الشيخ الجليل العارف ذو الأسرار والمعارف السيد الكبير البعيد الصيت الشهير علي بن إدريس اليعقوبي صاحب الشيخ عبد القادر الجيلي رضي الله عنهما. وفيها توفي أبو العباس نصر بن خضر بن نصر الإربلي الشيخ الفقيه الشافعي كان فاضلاً ورعًا زاهدًا صالحًا عابدًا متقللاً من الدنيا ومباركًا ذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق وأثنى عليه وكان قد قدم دمشق وأقام بها مدة وكان عارفًا بالمذهب والفرائض والخلاف اشتغل ببغداد على الكيا وابن الشاشي ولقي جماعة من مشائخها ثم رجع إلى اربل وبنى له صاحب اربل مدرسة القلعة فدرس بها زمانًا وهو أول من درس باربل. وله عدة تصانيف حسان كثيرة في التفسير والفقه وغير ذلك وله كتاب ذكر فيه ستًا وعشرين خطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلها مسندة واشتغل عليه خلق كثير وانتفعوا. ومن جملة من تخرج عليه الشيخ الفقيه الإمام أبو عمرو عثمان بن عيسى الهذباني الماراني شارح المهذب المتقدم ذكره في سنة اثنتين وست مائة وكانت وفاته ليلة الجمعة ولما توفي تولى موضعه ابن أخيه نصر بن عقيل وكان فاضلاً قد تخرج على عمه المذكور فسخط عليه الملك المعظم صاحب إربل وأخرجه منها فانتقل إلى الموصل فكتب إليه أبو الدر الرومي من بغداد وكان صاحبه. أيا ابن عقيل لا تخف سطوة العدى وإن أظهرت ما أضمرت من عنادها وأفضتك يومًا عن بلادك فتنة رأت فيك فضلاً لم يكن في بلادها كذا عادة الغربان تكره أن ترى بياض البراد الشهب دون سوادها وفيها توفي الشيخ الشهير بالأحوال الباهرة والكرامات الظاهرة يونس بن يوسف الشيباني قال الذهبي في ترجمته وهذا شيخ الطائفة اليونسية أولى الشطح وقلة العقل وكثرة الجهل أبعد الله شرهم.قال: وكان رحمه الله تعالى صاحب حال وكشف يحكى عنه كرامات قلت: قد ذكرت في غير موضع من هذا الكتاب غيظ الذهبي عن الصوفيه وتعريضه بالقدح فيهم وما على البدر إن قالوا به كلف وهذا مع اعترافه بأن الشيخ المذكور كان من ذوي الكشف والأحوال والكرامات المخصوص بها أولى القرب والنوال نفعنا الله تعالى بعباده الصالحين وأعاد علينا من بركاتهم أجمعين.
|