الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (10- 21): {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}{وَلَقَدْ مكناكم في الأرض} جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً، أو مكناكم فيها وأقدرناكم على التصرف فيها {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش} جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما. والوجه تصريح الياء لأنها أصلية بخلاف صحائف فالياء فيها زائدة، وعن نافع أنه همز تشبيهاً بصحائف {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} مثل {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42].{وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} أي خلقنا أباكم آدم عليه السلام طيناً غير مصور ثم صورناه بعد ذلك دليله {ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين} ممن سجد لآدم عليه السلام {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} {ما} رفع أيْ أيّ شيء منعك من السجود؟ {ولا} زائدة بدليل {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} [ص: 75] ومثلها {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أي ليعلم {إِذْ أَمَرْتُكَ} فيه دليل على أن الأمر للوجوب، والسؤال عن المانع من السجود مع علمه به للتوبيخ ولإظهار معاندته وكفره وكبره وافتخاره بأصله وتحقيره أصل آدم عليه السلام {قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} وهي جوهر نوراني {وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وهو ظلماني وقد أخطأ الخبيث بل الطين أفضل لرزانته ووقاره ومنه الحلم والحياء والصبر وذلك دعاه إلى التوبة والاستغفار، وفي النار الطيش والحدة والترفع وذلك دعاه إلى الاستكبار. والتراب عمدة الممالك، والنار عدة المهالك. والنار مظنة الخيانة والإفناء، والتراب مئنة الأمانة والإنماء، والطين يطفيء النار ويتلفها، والنار لا تتلفه. وهذه فضائل غفل عنها إبليس حتى زل بفاسد من المقاييس. وقولنا في القياس أول من قاس إبليس قياس. على أن القياس عند مثبته مردود عند وجود النصوص وقياس إبليس عناد للأمر المنصوص. وكان الجواب ل {مَا مَنَعَكَ} أن يقول: {منعني كذا} وإنما قال: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} لأنه قد استأنف قصة وأخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم عليه السلام وبعلة فضله عليه فعلم منها الجواب كأنه قال: منعني من السجود فضلي عليه، وزيادة عليه وهي إنكار الأمر واستبعاد أن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله، إذ سجود الفاضل للمفضول خارج عن الصواب {قَالَ فاهبط مِنْهَا} من الجنة أو من السماء لأنه كان فيها وهي مكان المطيعين والمتواضعين. والفاء في {فاهبط} جواب لقوله {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ} أي إن كنت تتكبر فاهبط {فَمَا يَكُونُ لَكَ} فما يصح لك {أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} وتعصي {فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين} من أهل الصغار والهوان على الله وعلى أوليائه، يذمك كل إنسان ويلعنك كل لسان لتكبرك، وبه علم أن الصغار لازم للاستكبار {قَالَ أَنظِرْنِى إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أمهلني إلى يوم البعث وهو وقت النفخة الأخيرة {قَالَ إِنَّكَ مِنَ المنظرين} إلى النفخة الأولى.وإنما أجيب إلى ذلك لما فيه من الابتلاء، وفيه تقريب لقلوب الأحباب أي هذا بريء بمن يسيئني فكيف بمن يحبني وإنما جسره على السؤال مع وجود الزلل منه في الحال علمه بحلم ذي الجلال.{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى} أضللتني أي فبسبب إغوائك إياي. والباء تتعلق بفعل القسم المحذوف تقديره فسبب إغوائك أقسم، أو تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم} لأعترضن لهم على طريق الإسلام مترصداً للرد متعرضاً للصد كما يتعرض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة. وانتصابه على الظرف كقولك (ضرب زيد الظهر) أي على الظهر. وعن طاوس أنه كان في المسجد الحرام فجاء رجل قدري فقال له طاوس: تقوم أو تقام. فقام الرجل فقيل له: أتقول هذا لرجل فقيه؟ فقال: إبليس أفقه منه {قَالَ رَبّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} وهو يقول أنا أغوي نفسي.{ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أشككهم في الآخرة {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أرغبهم في الدنيا {وَعَنْ أيمانهم} من قبل الحسنات {وَعَن شَمَائِلِهِمْ} من قبل السيئات وهو جمع شمال يعني ثم لآتينهم من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب. وعن شقيق: ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يدي فيقول لا تخف فإن الله غفور رحيم فاقرأ {وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ وَامَنَ وَعَمِلَ صالحا} [طه: 82]. ومن خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي فاقرأ {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] وعن يميني فيأتيني من قبل الثناء فاقرأ {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] وعن شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فاقرأ {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54] ولم يقل من فوقهم ومن تحتهم لمكان الرحمة والسجدة، وقال في الأولين {من} لابتداء الغاية وفي الأخيرين {عن} لأن {عن} تدل على الانحراف {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} مؤمنين قاله ظناً فأصاب لقوله {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] أو سمعه من الملائكة بإخبار الله تعالى إياهم.{قَالَ اخرج مِنْهَا} من الجنة أو من السماء {مَذْءومًا} معيباً من ذأمه إذا ذمه والذأم والذم العيب {مَّدْحُورًا} مطروداً مبعداً من رحمة الله. واللام في {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} موطئة للقسم وجوابه {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ} وهو ساد مسد جواب الشرط {مّنكُمْ} منك ومنهم فغلب ضمير المخاطب {أَجْمَعِينَ وَيا ءَادَمَ} وقلنا يا آدم بعد إخراج إبليس من الجنة {اسكن أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة} اتخذها مسكناً {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا} فتصيرا {مِنَ الظالمين فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان} وسوس إذا تكلم كلاماً خفياً يكرره وهو غير متئد، ورجل موسوس بكسر الواو ولا يقال موسوس بالفتح ولكن موسوس له وموسوس إليه وهو الذي يلقي إليه الوسوسة.ومعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ووسوس إليه ألقاها إليه {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءاتِهِمَا} ليكشف لهما ما ستر عنهما من عوراتهما. وفيه دليل على أن كشف العورة من عظائم الأمور، وأنه لم يزل مستقبحاً في الطباع والعقول. فإن قلت: ما للواو المضمومة في {ووري} لم تقلب همزة كما في (أويصل) تصغير واصل وأصله (وويصل) فقلبت الواو همزة كراهة لاجتماع الواوين؟ قلت: لأن الثانية مدة كألف (وارى) فكما لم يجب همزها في (واعد) لم يجب في {وورى} وهذا لأن الواوين إذا تحركتا ظهر فيهما من الثقل ما لا يكون فيهما إذا كانت الثانية ساكنة، وهذا مدرك بالضرورة فالتزموا إبدالها في موضع الثقل لا في غيره. وقرأ عبد الله {أورى} بالقلب {وَقَالَ مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} إلا كراهة أن تكونا ملكين تعلمان الخير والشر وتستغنيان عن الغذاء. وقرئ {مَلَكَيْنِ} لقوله {وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120] {أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين {وَقَاسَمَهُمَا} وأقسم لهما {إِنّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} وأخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه لما كان منه القسم ومنهما التصديق فكأنهما من اثنين..تفسير الآيات (22- 36): {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}{فدلاهما} فنزلهما إلى الأكل من الشجرة {بِغُرُورٍ} بما غرهما به من القسم بالله وإنما يخدع المؤمن بالله. وعن ابن عمر رضي الله عنهما: من خدعنا بالله انخدعنا له {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة} وجدا طعمها آخذين في الأكل منها وهي السنبلة أو الكرم {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءاتُهُمَا} ظهرت لهما عوراتهما لتهافت اللباس عنهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر. وقيل: كان لباسهما من جنس الأظفار أي كالظفر بياضاً في غاية اللطف واللين فبقي عند الأظفار تذكيراً للنعم وتجديداً للندم {وَطَفِقَا} وجعلا يقال طفق يفعل كذا أي جعل {يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} يجعلان على عورتهما من ورق التين أو الموز ورقة فوق ورقة ليستترا بها كما تخصف النعل.{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} هذا عتاب من الله وتنبيه على الخطأ. وروي أنه قال لآدم عليه السلام: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى ولكن ما ظننت أن أحداً يحلف بك كاذباً قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا بكد يمين وعرق جبين، فأهبط وعلم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث وسقى وحصد ودرس وذرى وطحن وعجن وخبز {وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} فيه دليل لنا على المعتزلة لأن الصغائر عندهم مغفورة {قَالَ اهبطوا} الخطاب لآدم وحواء بلفظ الجمع لأن إبليس هبط من قبل، ويحتمل أنه هبط إلى السماء ثم هبطوا جميعاً إلى الأرض {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} في موضع الحال أي متعادين يعاديهما إبليس ويعاديانه {وَلَكُمْ في الأرض مُسْتَقَرٌّ} استقرار أو موضع استقرار {ومتاع} وانتفاع بعيش {إلى حِينٍ} إلى انقضاء آجالكم. وعن ثابت البناني: لما أهبط آدم عليه السلام وحضرته الوفاة وأحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني ما أصابني فيك. فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وتراً وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له قبراً ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ} في الأرض {وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} للثواب والعقاب {تُخْرَجُونَ} حمزة وعلي {يابَنِي ءادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} جعل ما في الأرض منزلاً من السماء لأن أصله من الماء وهو منها {يوارى سَوْءاتِكُمْ} يستر عوراتكم {وَرِيشًا} لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين: لباساً يواري سوءاتكم ولباساً يزينكم {وَلِبَاسُ التقوى} ولباس الورع الذي يقي العقاب وهو مبتدأ وخبره الجملة وهي {ذلك خَيْرٌ} كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير لأن أسماء الإشارة تقرب من الضمائر فيما يرجع إلى عود الذكر، أو {ذلك} صفة للمبتدأ و{خَيْرٌ} خبر المبتدأ كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير، أو {لِبَاسَ التقوى} خبر مبتدأ محذوف أي وهو لباس التقوى أي ستر العورة لباس المتقين، ثم قال: {ذلك خَيْرٌ} وقيل: ولباس أهل التقوى من الصوف والخشن.{وَلِبَاسُ التقوى} مدني وشامي وعلي عطفا على {لِبَاساً} أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى {ذلك مِنْ ءايَاتِ الله} الدالة على فضله ورحمته على عباده يعني إنزال اللباس {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فيعرفوا عظيم النعمة فيه، وهذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدو السوءات وخصف الورق عليها إظهاراً للمنة فيما خلق من اللباس، ولما في العري من الفضيحة وإشعاراً بأن التستر من التقوى.{يابنى آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مّنَ الجنة} لا يخدعنكم ولا يضلنكم بأن لا تدخلوا الجنة كما فتن أبويكم بأن أخرجهما منها {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} حال أي أخرجهما نازعاً لباسهما بأن كان سبباً في أن نزع عنهما. والنهي في الظاهر للشيطان وفي المعنى لبني آدم أي لا تتبعوا الشيطان فيفتنكم {لِيُرِيَهُمَا سَوْءتِهِمَا} عوراتهما {إِنَّهُ} الضمير للشأن والحديث {يَرَاكُمْ هُوَ} تعديل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المداجي يكيدكم من حيث لا تشعرون {وَقَبِيلُهُ} وذريته أو وجنوده من الشياطين وهو عطف على الضمير في {يَرَاكُمْ} المؤكد ب {هُوَ}، ولم يعطف عليه لأن معمول الفعل هو المستكن دون هذا البارز وإنما يعطف على ما هو معمول الفعل {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} قال ذو النون: إن كان هو يراك من حيث لا تراه فاستعن بمن يراه من حيث لا يراه وهو الله الكريم الستار الرحيم الغفار.{إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} فيه دلالة خلق الأفعال {وَإِذَا فَعَلُواْ فاحشة} ما يبالغ في قبحه من الذنوب وهو طوافهم بالبيت عراة وشركهم {قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءابَاءنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} أي إذا فعلوها اعتذروا بأن آبائهم كانوا يفعلونها فاقتدوا بهم، وبأن الله أمرهم بأن يفعلوها حيث أقرنا عليها إذا لو كرهها لنقلنا عنها وهما باطلان، لأن أحدهما تقليد للجهال والثاني افتراء على ذي الجلال {قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشاء} إذ المأمور به لابد أن يكون حسناً وإن كان فيه على مراتب على ما عرف في أصول الفقه {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} استفهام إنكار وتوبيخ {قُلْ أَمَرَ رَبّي بالقسط} بالعدل وبما هو حسن عند كل عاقل فكيف يأمر بالفحشاء {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} وقل أقيموا وجوهكم أي اقصدوا عبادته مستقيمين إليها غير عادلين إلى غيرها في كل وقت سجود أو في كل مكان سجود {وادعوه} واعبدوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي الطاعة مبتغين بها وجهه خالصاً {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} كما أنشأكم ابتداء يعيدكم، احتج عليه في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق، والمعنى أنه يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة {فَرِيقًا هدى} وهم المسلمون {وَفَرِيقًا} أي أضل فريقاً {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} وهم الكافرون {إِنَّهُمُ} إن الفريق الذين حق عليهم الضلالة {اتخذوا الشياطين أَوْلِيَاء مِن دُونِ الله} أي أنصاراً {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} والآية حجة لنا على أهل الاعتزال في الهداية والإضلال.{يابنى ءادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ} لباس زينتكم {عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} كلما صليتم. وقيل: الزينة المشط والطيب، والسنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئاته للصلاة لأن الصلاة مناجاة الرب فيستحب لها التزين والتعطر كما يجب التستر والتطهر {وَكُلُواْ} من اللحم والدسم {واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} بالشروع في الحرام أو في مجاوزة الشبع {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} وعن ابن عباس رضي الله عنهما: كل ما شئت، واشرب ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة. وكان للرشيد طبيب حاذق فقال لعليّ بن الحسين بن واقد: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان. فقال له عليّ: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه وهو قوله {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تُسْرِفُواْ} فقال النصراني: ولم يرو عن رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا الطب في ألفاظ يسيرة وهي قوله عليه السلام: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طباً. ثم استفهم إنكاراً على محرم الحلال بقوله.{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله} من الثياب وكل ما يتجمل به {التى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} أي أصلها يعني القطن من الأرض والقز من الدود {والطيبات مِنَ الرزق} والمستلذات من المآكل والمشارب. وقيل: كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها {قُلْ هي لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ فيالحياة الدنيا} غير خالصة لهم لأن المشركين شركاؤهم فيها {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} لا يشركهم فيها أحد. ولم يقل للذين آمنوا ولغيرهم لينبه على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة والكفار تبع لهم. {خَالِصَةٌ} بالرفع: نافع ف {هِىَ} مبتدأ خبره {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} و{فيالحياة الدنيا} ظرف للخبر، أو {خَالِصَةٌ} خبر ثانٍ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي خالصة، وغيره نصبها على الحال من الضمير الذي في الظرف الذي هو الخبر أي هي ثابتة للذين آمنوا في الحياة الدنيا في حال خلوصها يوم القيامة {كذلك نُفَصّلُ الآيات} نميز الحلال من الحرام {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أنه لا شريك له.{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش} {رَبّي} حمزة {الفواحش} ما تفاحش قبحه أي تزايد {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} سرها وعلانيتها {والإثم} أي شرب الخمر أو كل ذنب {والبغي} والظلم والكبر {بِغَيْرِ الحق} متعلق بالبغي. ومحل {وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سلطانا} حجة النصب كأنه قال حرم الفواحش وحرم الشرك {يُنَزّلٍ} بالتخفيف: مكي وبصري، وفيه تهكم إذ لا يجوز أن ينزل برهاناً على أن يشرك به غيره {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وأن تتقولوا عليه وتفتروا الكذب من التحريم وغيره {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} وقت معين يأتيهم فيه عذاب الاستئصال إن لم يؤمنوا، وهو وعيد لأهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عند الله كما نزل بالأمم {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} قيد بساعة لأنها أقل ما يستعمل في الإمهال {يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} هي {إن} الشرطية ضمت إليها {ما} مؤكدة لمعنى الشرط، لأن {ما} للشرط ولذا لزمت فعلها النون الثقيلة أو الخفيفة {رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ ءاياتى} يقرءون عليكم كتبي وهو في موضع رفع صفة ل {رُسُلُ} وجواب الشرط {فَمَنِ اتقى} الشرك {وَأَصْلَحَ} العمل منكم {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} أصلاً {فَلاَ خَوْفٌ} يعقوب {والذين كَذَّبُواْ} منكم {بئاياتنا واستكبروا عَنْهَا} تعظموا عن الايمان بها {أُولَئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون}.
|