الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
وفيه طرفان الطرف الأول في ذكر أصولها وترتيبها وفيه جملتان الجملة الأولى في المكاتبات إلى أهل الإسلام واعلم أن المكاتبات الدائرة بين المسلمين من صـدر الإسلـام وإلـى زماننـا لا يأخذهـا حـدٌّ ولا تدخل تحت حصر. والمشهور استعماله منها في دواوين الإنشاء على اختلاف الأزمان خمسة عشر أسلوباً. الأسلوب الأول أن تفتتح الكتب بلفظ من فلان قال أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: وأول من كتب بذلك قس ابن ساعدة الإيادي وعلى ذلك كانت مكاتبات النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهـم. فكـان النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم يكتـب: " مـن محمـدٍ رسـول اللـه إلـى فلـان " ثـم كتـب أبـو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته: " من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثم كتب عمـر بعـده: " مـن عمـر بـن الخطـاب خليفـة خليفـة رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم إلـى فلـان " فلمـا لقـب بأميـر المؤمنيـن زاد فـي ذلـك لفـظ عبـد اللـه قبـل عمـر ولقـب أمير المؤمنين بعده فكان يكتب: من عبد الله عمر أميـر المؤمنيـن إلـى فلـان. ولـم يـزل الأمـر علـى ذلـك إلـى خلافـة هـارون الرشيـد فأمـر أن يـزاد فـي صـدور الكتب بعد فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلـي علـى جـد محمـدٍ عبـده ورسولـه. فجـرى الأمـر على ذلك في زمنه وما بعده قال أبو هلال العسكـري في الأوائل: وكان ذلك من أجل مناقبه. قال صاحب ذخيرة الكتاب: وكان الرشيد قـد قـال ليحيـى بـن خالـد: إنـي قـد عزمـت علـى أن يكـون فـي كتبـي مـن عبـد اللـه هـارون الإمـام أميـر المؤمنين عبـد رسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسلـم فقـال لـه يحيـى: قـد عـرف اللـه نيتـك فـي هـذا يـا أميـر المؤمنين! وأجزل لك الأجر والتعبد إنما هو لله وحده لا لغيره قال: فأكتب من هارون مولى محمـد رسـول اللـه فقـال: إن المولـى ربمـا كـان فـي كلـام العـرب ابـن العم وجزى الله أمير المؤمنين خيراً الأسلوب الثاني أن يفتتح الكتاب بلفظ لفلان من فلان أو إلى فلان من فلان وبقيـة الصـدر والتخلـص بأمـا بعـد أو غيرهـا والاختتـام بالسلـام وغيره على ما تقدم في الأسلوب الأول وقد اختلف العلماء في جواز الابتداء في المكاتبة باسم المكتوب إليه فذهب جماعةٌ من العلماء إلى جواز ذلك محتجين بأن الصحابة رضي الله عنهم وبعض الملوك كانوا يكتبون إلى النبـي صلى الله عليه وسلم كذلك. كما يكتب إليه خالد ابن الوليد والنجاشي والمقوقس في إحـدى الروايـات علـى مـا سيأتـي ذكـره فـي المكاتبـات إلـى النبـي صلـى الله عليه وسلم فيما بعد إن شاء الله تعالى. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كتب أحدكم فليبدأ بنفسه إلا إلى والـدٍ أو والـدةٍ أو إمام يخاف عقوبته. وعن نافع قال: كانت لابن عمر إلى معاوية حاجةٌ فقال له ولـده: إبـدأ بـه فـي الكتـاب فلـم يزالـوا بـه حتـى كتـب: بسـم اللـه الرحمن الرحيم إلى معاوية من عبد اللـه بـن عمـر. وعـن الأوزاعـي أنـه كان يكتب إلى عمر بن عبد العزيز فيبدأ به فلا ينكر ذلك. وعـن سعيـد بـن عبـد العزيـز قـال: كتـب عمـر يعنـي ابـن عبد العزيز إلى الحجاج فبدأ بالحجاج قبل نفسـه فقيـل لـه فـي ذلـك فقـال: بـدأت بـه لأحقـن دم رجـل مـن المسلميـن. قـال سعيـد: فحقـن له دمه. وعـن بكـر بـن عبـد اللـه أنـه كتـب إلـى عامـلٍ في حاجة فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم إلى فلان من بكر فقيل له: أتبدأ باسمه فقـال: ومـا علـي أن أرضـي صاحبـي وتقضـى حاجـة أخـي المسلم قال في صناعة الكتاب: وعلى ذلك جرى التعارف في المكاتبة إلى الإمام. وذهب قوم إلى كراهة ذلك لأنه مأخوذٌ عن ملوك العجم. قال ميمون بن مهران: كان العجم يبـدأون بملوكهـم إذا كتبـوا إليهـم. وقـد روي عـن العـلاء بن الحضرمي أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ بنفسه. وعن الربيع بن أنسٍ قال: ما كان أحدٌ أعظم حرمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه يكتبون إليه يبدأون بأنفسهم. وعلى ذلك جرى في نهاية الأرب فقال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمراء جيوشه يكتبون إليه كما يكتب إليهم يبدأون بأنفسهم. وعن ميمون بن مهران أنه قال: كان ابن عمر إذا كتب إلى أبيه كتـب مـن عبـد اللـه بـن عمـر إلـى عمـر بـن الخطـاب. وعـن يحيـى بـن سعيـد القطـان قـال: قلـت لسفيـان الثـوري: أكتـب إلـى أميـر المؤمنيـن يعنـي المهـدي قـال: إن كتبـت إليـه بدأت بنفسي قلت: فلا تكتب إليه إذن. وهذه الأقوال كلها جانحةٌ إلى ترجيح بداءة المكتوب عنه بنفسه. قال أبو جعفر ولتعلـم أن الذاهبيـن إلـى جـواز الابتـداء باسـم المكتـوب إليـه اختلفـوا فذهب قومٌ إلى أنه إنما يكتب إلـى فلـان مـن فلـان كمـا تقـدم فـي كتـاب ابـن عمر إلى معاوية ولا يكتب لفلان من فلان. واستشهد لذلـك بمـا روي عـن ابـن عمـر رضـي الله عنه أنه قال: يكتب الرجل من فلان إلى فلان ولا يكتب لفلان وبما روي عن هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أنه قال: كانوا يكرهون أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم لفلان من فلان. لكن قد روي أن رجلاً كتب عند ابن عمر له إذن. ومقتضى ذلك أن الكراهة إنما هي لإيهام أن البسملة للمكتوب إليه لا للابتداء باسم المكتوب إليه. وذهبت طائفة إلى جواز أن يكتب لفلانٍ من فلان واحتج لذلك بما روي عن مالك بن أنس عـن عبـد اللـه بـن دينـار أن ابـن عمـر كتـب إلـى عبد الملك ابن مروان: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد لعبد الملك أمير المؤمنين من عبد الله بن عمر وهو ظاهر فقد كانت مكاتبة خالد بن الوليد والنجاشي والمقوقس لمحمد رسول الله على ما سيأتي ذكره. وعلى ذلك كانت المكاتبة للخلفاء فكان يكتب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من عماله وغيرهم لعبد الله عمر أمير المؤمنين وعلى ذلك جرى الحال في المكاتبة إلى سائر الخلفاء بعده على ما ستقف عليه في مواضعه إن شاء الله تعالى. الأسلوب الثالث وعليـه ورد بعـض المكاتبـات الصـادرة عـن النبـي صلـى اللـه عليه وسلم وعن الخلفاء من الصحابة فمن بعدهم في صدر الإسلام على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وكانوا بعد حدوث الدعاء في المكاتبات يبتعونها بالدعاء بطول البقاء غالباً فيقال: أما بعد أطـال اللـه بقـاءك ونحـو ذلـك ثـم أضـرب بعـض الكتـاب بعـد ذلـك. قـال أبـو هلال العسكري في كتابه الصناعتيـن: وكـان النـاس فيمـا مضـى يستعملـون فـي أوائـل فصـول الرسائـل أمـا بعـد وقـد تركها جماعةٌ من الكتاب فلا يكادون يستعملونها. قال: وأظنهم ألموا بقول ابن القرية وقد سأله الحجاج عما ينكره من خطابته فقال: إنك تكثر الرد وتشير باليد وتستعين بأمـا بعـد. فتحاموهـا لهـذه الجهة. ثم قال: فإن استعملتها اتباعاً للسلف ورغبةً فيما جاء فيها من التأويل أنها فصـل الخطاب فهو حسن وإن تركتها توخياً لمطابقة أهل عصرك وكراهةً للخروج عما أصلوه لم تكن ضائراً. أما الآن فقد ترك الابتداء في الكتب بأما بعد حتى لا يكاد يعول عليها في الابتداء كاتبٌ من كتاب الزمان ولا يفتتح بها مكاتبة. نعم يؤتى بها في أثناء بعض المكاتبات على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وقد تقدم الكلام على معناها وأول من قالها في الكلام على الفواتح في المقالة الثالثة وكتاب المغاربة ربما افتتحوا مكاتباتهم بلفظ وبعد. أن تفتتح المكاتبة بخطبة مفتتحة بالحمد لله وأصل هذه المكاتبة مختلسٌ من الأسلوب الأول من قولهم: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. ثم جاء عبد الحميد بن يحيى كاتب مروان بن محمـد آخـر خلفـاء بنـي أميـة فأطـال التحميدات في صدور الكتب مع الإتيان بأما بعد وتبعه الكتاب على ذلك ثم توسعوا فيه حتى كرروا الحمد المرات في الكتاب الواحد لا سيما في أماكـن النعـم الحادثـة كالفتوحـات ونحوهـا ثـم توسـع بعـض الكتـاب في ذلك حتى جعل الحمد لله افتتاحاً واستمر ذلك إلى الآن. وعلـى ذلـك بعـض المكاتبـات السلطانيـة فـي زماننا على ما ستقف على ذلك جميعه في مواضعه إن شاء الله تعالى. ولا خفاء في أن الحمد أفضل الافتتاحات وأعلى مراتب الابتداآت وإن لم يقع الابتداء به في صدر الإسلام فهـو مـن المبتدعـات المستحسنـة. وحيـث افتتحـت المكاتبـة بالحمـد للـه كـان التخلص منها إلى المقصود بأما بعد وربما وقع التخلص بغير ذلك ويكون الاختتام فيها تارةً بالسلام وتارةً بالدعاء وتارةً بغير ذلك. قال ابن شيث في معالم الكتابة: والتحميد في أول الكتب لا يكون إلا في الكتب المكتوبة عن السلطان. قال: وغاية عظمـة الكاتـب أن يكـرر التحميد ثانيةً وثالثةً في الكتاب ثم يذكر الشهادتين والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. الأسلوب الخامس أن تفتتح الكتاب بلفظ كتابي إليك أو كتابنا إليك من موضع كذا أو في وقت كذا والأمر على كذا وتشرح القضية وتختم المكاتبة بكتابنا إليك بنحـو قولـك: فـإن رأيـت أن تفعـل كذا فعلت والمكاتبة بكتابي إليك بنحو قولك: فرأيك في كذا وما يجري هذا المجرى والأصل في هذه المكاتبة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب فـي بعـض المكاتبـات الصـادرة عنـه: " هـذا كتـابٌ مـن محمـدٍ رسـول الله إلى فلانٍ أو إلى الجماعة الفلانيين ". فلما كان أيـام بنـي بويـه فـي أثنـاء الدولـة العباسيـة استخرج كتابها من هذا المعنى الابتداء بكتابي إليك إذا كانـت المكاتبة إلى النظير ومن في معناه والابتداء بكتابنا إليك إذا كانت المكاتبة عمن له رتبة نـون العظمـة مـن الملـوك ونحوهـم وكانوا يتبعون ذلك بالدعاء بطول البقاء نحو كتابي إليك أطال الله بقاءك أو كتابنا إليك أطال الله بقاءك. وربما عبر بهذه الخدمة وما أشبه ذلك ويكون التخلص فيـه إلـى المقصـد بـواو الحـال مثـل أن يقـال: كتابـي إليك والأمر على كذا وكذا ونحو ذلك وربما وقع التخلص بخلاف ذلك. ويكون الاختتام فيـه تـارةً بالسلـام وتـارةً بالدعـاء وتـارةً بغيـر ذلـك. وكتاب المغرب عدلوا عن لفظ الاسم في كتابي إلى لفظ الفعل. مثل أن يقال: كتبنا إليك أو كتبت إليك والأمر على كذا أو من موضع كذا. الأسلوب السادس أن تقع المكاتبة بلفظ كتب بصيغة الفعل وهذه المكاتبة كان يكتب بها عن الوزراء ومن في معناهم إلى الخلفاء. فيكتـب الوزيـر ونحوه: كتب عبد أمير المؤمنين أو كتب العبد من محل خدمته بمكان كذا والأمر علـى كـذا وكـذا. وعلـى نحـو مـن ذلـك يجـري كتـاب المغاربـة فـي الكثيـر مـن كتبهـم مثـل إنـا كتبنـا إليكـم مـن محـل كـذا أو كتبـت إليـك مـن محـل كـذا ومـا أشبـه ذلك. وهذه في الأصل مأخوذةٌ من الأسلوب الذي قبل. الأسلوب السابع أن يقع الافتتاح بالدعاء والأصـل فـي ذلـك مـا حكـاه أبو جعفر النحاس: إن معاوية بن أبي سفيان كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند جريان الخلاف ووقوع الحرب بينهما: أما بعد عافانا الله وإياك من السوء. ثم زاد الناس في الدعاء بعد ذلك. وقد اختلف في جواز المكاتبة بالدعاء في الجملة فذهب ذاهبون إلى جواز ذلك كما يجوز الدعاء في غير المكاتبة سواءٌ تضمن الدعاء معنى الدوام والبقاء أم لا. وهو الذي رجحه محمـد بـن عمـر المدائنـي فـي كتـاب القلـم والـدواة وإليـه يميـل كلـام غيره أيضاً وحكاه النحاس عن أبي جعفرٍ أحمد بن سلامة وكلامه يميل إلى ترجيحه. أما ما يتضمن معنى الدوام والبقاء فلما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي اليسر كعب ابن علية: " اللهم أمتعنا به " قال النحـاس: وذلك دليل الجواز بل حكي عن بعضهم أن الدعاء بطول البقاء أكمل الدعاء وأفخمه لأن كل نعمةٍ لا ينتفع بها إلا مع طول البقاء. ثم قال: والمعنى في الدعاء في المكاتبات التودد والتحبب وقد أمر صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يكونوا إخواناً ومن أخوتهم ود بعضهم بعضاً. وكذلك القول بما يؤكد الأخوة بينهم والمودة من بعضهم لبعض وإذا قال له ذلك كان قد بلـغ مـن قلبـه نهايـة مبلـغ مثلـه منـه ويكـو مـن قال ذلك قد علم من قلبه في شأنه ما يكون من قلب مثله. وقد قال الشيخ محيي الدين النووي: من قال لصاحبه حفظاً لمودة: أدام الله لك النعم ونحو ذلك فلا بأس به. وأما ما لم يتضمن معنى الدوام والبقاء كالعز والكرامة فقد روي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من رأى منكم مقتل حمزة فقلت: أعزك اللـه! أنـا رأيتـه. " وعـن أنـسٍ بـن مالـك رضي الله عنه قال: دخل جرير بن عبد الله على النبي صلـى اللـه عليه وسلم فضن الناس بمجالسهم فلم يوسع له أحدٌ فرمى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببردته وقال: اجلس عليها يا جرير فتلقاها بوجهه ونحره فقبلها ثم ردها علـى ظهـره وقـال: أكرمـك اللـه يا رسول الله كما أكرمتني فقد دعا له صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك بالعز وجرير بن عبد الله بالكرامة ولم ينكر ذلك على واحدٍ منهما. وذهب آخرون إلى أنه لا تجوز المكاتبة بالدعاء سواءٌ تضمن معنى الدوام والبقاء أم لا لأنـه خلاف ما وردت به السنة وجرى عليه اصطلاح السلف. وفصل بعضهم فقال: إن كان الدعاء مما لا يتضمن معنى الدوام والبقاء نحو أكرمك الله بطاعته وتولاك بحفظه وأسعدك بمعرفته وأعزك بنصره جاز لحديثي كعب بن مالك وجرير بن عبد الله المتقدمين. وإن كان مما يتضمن معنى الدوام والبقاء نحو أطال الله بقاءك ونسأ أجلك وأمتع بك وما أشبه ذلك لم تجز المكاتبة به. واحتج لذلك بحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم قالـت: اللهـم أمتعنـي بزوجـي رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم وبأبي أبي سفيان وبأخي معاوية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقـد دعـوت لآجـالٍ مضروبةٍ وأرزاقٍ مقسومةٍ لا يتقدم منها شيءٌ قبل أجله ولا يتأخر بعد أجله ولو سألت الله أن يقيك عذاب النار لكان خيراً لك. وبما روي أن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال للنبي صلى اللـه عليـه وسلـم: " جعلنـي اللـه فـداك " فقـال لـه النبـي صلـى اللـه عليـه: " أمـا تركـت أعرابيتـك بعـد " فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على أم حبيبة والزبير الدعاء بما فيه طول البقاء. وإذا امتنع ذلك في مطلق الدعاء امتنع في المكاتبة من باب أولى لمخالفة طرقها التي وردت بها السنة. قال حماد بن سلمة: كانت مكاتبة المسلمين من فلان إلى فلان أما بعد سلامٌ عليك فإنـي أحمـد إليـك اللـه الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد عبده فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أسأله أن يصلي على محمد عبده وآل محمد حتى أحدث الزنادقة لعنهم الله هذه المكاتبة التي أولها أطال الله بقاءك. وعن إسماعيل بن إسحاق أن أول من كتب أطال الله بقاءك الزنادقة. وقد قال الإمام الرافعي وغيره من أئمة أصحابنا الشافعية: إن الدعاء بالطليقة وهي أطال الله بقاءك لا أصل له في الشرع. قال الشيخ محيي الدين النووي: وقد نص السلف على كراهته. ونقل النحاس عن بعضهـم أنـه استحـب تقييـده بالإضافـة إلى شيء آخر مثل أن يكتب أطال الله بقاءك في طاعته وكرامته أو أطال الله بقاءك في أسر عيش وأنعم بال وما أشبه ذلك. واعلم أن الناس قد اختلفوا في صورة الابتداء بالدعاء فالأولون لابتداع الدعاء في المكاتبات كانوا يفتتحو بطول البقاء للخلفاء وغيرهم ثم توسعت الطبقة الثانية من الكتاب في المكاتبة فافتتحـوا بالدعـاء للخلفـاء والملـوك بخلـود الملـك ودوام الأيـام ودوام السلطـان وخلـوده وما في معنى ذلك ولمن دونهم بعد النصر والنصرة والأنصار بدوام النعمة وخلود السعادة ومد الظل وإسبـاغ الظلـال وغيـر ذلـك ممـا يأتـي ذكـره فـي الكلـام على مصطلح كل طبقةٍ فيما بعد إن شاء الله تعالى. ثم للكتاب في الخطاب بالدعاء مذهبان: أحدهما أن يقـع الدعـاء بلفـظ الخطـاب نحـو أطـال اللـه بقـاءك وأعـزك اللـه وأكرمـك اللـه وأدام كرامتك وسعادتك وما أشبه ذلك. والثاني أن يقع بلفظ الدعاء للغائب مثل: أطال الله بقاء أمير المؤمنين وأطال الله بقاء سيدي وأطـال اللـه بقاء مولانا أو أعز الله أنصار المقام أو المقر أو ضاعف الله تعالى نعمة الجناب أو أدام الله نعمة الجناب أو المجلس وما أشبه ذلك. قـال فـي صناعـة الكتـاب: وهـو أجـل الدعـاء فيمـا اصطلحـوا عليـه. قال: ورأيت علي بن سليمان ينكر ذلك ويقول: الدعاء للغائب جهل اللغة ونحن ندعو الله عز وجل بالمخاطبة. أن يفتتح الكتاب بالسلام ويقع التخلص إلى المقصود بلفظ ونبدي لعلمه أو نحو ذلك ويقع الاختتام فيه بالسلام أيضاً وهو منتـزع مـن قولهـم فـي صـدر المكاتبـة فـي الأسلـوب الـأول: سلـامٌ عليـك فإنـي أحمـد إليك الله تصرف الكتاب فيه فجعلوا السلام في ابتـداء المكاتبـة وصـاروا يبتدئونهـا بنحـو سلـام اللـه ورحمتـه وبركاتـه. وقـد كانـوا يبتدئـون المكاتبـة إلـى الخلفـاء ببغـداد في الدولة الأيوبية بالديار المصرية بالسلام فـي بعـض الأحيـان وعلـى ذلـك استقـرت المكاتبـة عن الخليفة الآن. وبه يفتتح بعض المكاتبات إلى مشايخ الصوفية على ما سيأتي في الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى. قال في صناعة الكتاب: وإنما قدموا السلام على الرحمة لتصرفه لأنه من أسماء الله تعالى أو جمع سلامة. قال في مواد البيـان: أو اسـم للجنـة كمـا فـي قولـه تعالـى: الأسلوب التاسع أن يفتتح الكتاب بيقبل الأرض ويتخلـص إلـى المقصـود بلفـظ وينهي ويقع الاختتام بطالع أو أنهي وهذه المكاتبة مما هو موجودٌ في بعض مكاتبات القاضي الفاضل ولم أرها فيما قبله وكأنهم لما استعملوا في صدور المكاتبات إلى الخلفاء المكاتبة بيقبل الأرض والعتبات ونحو ذلك استنبطوا منه ابتداء مكاتبةٍ وجعلوها لمكاتبة الرؤسـاء مـن السلطـان ومـن فـي معنـاه بالنسبـة إلـى المـرؤوس. والأصـل فـي ذلـك أن تحيـة الملـوك والرؤساء والأكابر في الأمم الخالية كانت بالسجود كما يحيي المسلمون بعضهم بعضاً بالسلام. وقد قال قتـادة فـي قولـه تعالـى حكايـةً عـن إخـوة يوسـف عليهـم السلـام: قال الشيـخ عمـاد الديـن بـن كثيـر رحمه الله في تفسيره: وكان ذلك مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسـخ فـي ملتنـا. قـال معـاذٌ يـا رسـول اللـه! إنـي قدمـت الشـام فرأيتهـم يسجـدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك. فقال: لا لو كنت آمراً بشراً أن يسجد لبشرٍ لأمرت المرأة أن تسجد لبعلها من عظم حقه عليها. وعن صهيب: أن معاذاً لما قدم من اليمن سجد النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا معاذٌ ما هذا قال: إن اليهود تسجد لعظمائها وعلمائها ورأيت النصارى تسجد لقسيسيها وبطارقتها قلت ما هذا قالوا: تحيـة الأنبيـاء فقـال عليـه السلـام: كذبـوا علـى أنبيائهـم. وعـن سفيـان الثوري عن سماك بن هانيء قال: دخل الجاثليق على فلما وردت شريعة الإسلام بنسخ التحية بالسجود وغلب ملوك العجم على الأقطار استصحبـوا مـا كـان عليـه الأمـر فـي الأمـم الخاليـة وعبـروا عنـه بتقبيـل الـأرض فـراراً مـن اسـم السجـود ولورود الشريعة بالنهي عنه واستمر ذلك تحية الملوك إلى الآن فاستعار الكتاب ذلك ونقلوه من الفعـل إلـى اللفـظ فاستعملـوه فـي مكاتباتهـم إلـى الخلفاء والملوك ثم توسعوا في ذلك فكاتبوا به كل مـن لـه عظمـة بالنسبـة إلـى المكتـوب عنـه ورتبـوه مراتـب على ما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولا خفاء فيما في هذه المكاتبة من الكراهة. الأسلوب العاشر أن يفتتح الكتاب بيقبل اليد وما في معناها من الباسط والباسطة ويقع التخلص منه إلى المقصود بما يقع به التخلص في الأسلوب الذي قبله من الانتهاء ويختم بالدعاء ونحوه. والأصل في هذه المكاتبة أن يقبل اليد وما في معناها مما يؤذن بالتعظيم والتبجيل والتكريم وعلـو القـدر وزيـادة الرفعـة مـع أنـه ليـس بممنـوع فـي الشريعـة. فقـد ثبـت فـي الصحيحين في حديث الإفـك: أنـه لمـا أنـزل الله تعالى براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قال لها أبوها: قومي إلى النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم فقبلي يده. ولم يكن الصديق رضي الله عنه ليأمرها بما هو ممنوع فـي الشريعـة. وقـد نـص الفقهـاء رحمهـم اللـه علـى أنـه يجـوز تقبيل يد العالم والرجل الصالح ونحوهما فاستعار الكتاب ذلك ونقلوه من الفعل إلى الكتابة أيضاً كما فعلوا في تقبيل الأرض على أن بعض الكتاب قد جعل يقبل القدم رتبة بين يقبل الأرض ويقبل اليد وما في معناه وهو ظاهر لكنه لم يشتهر في عرف الكتاب. الأسلوب الحادي عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ صدرت المكاتبة ويتخلص فيها إلى المقصود بلفظ وتوضح لعلمه وما أشبه ذلك. ويقع الاختتام فيها بمثل والله الموفق ونحو ذلك. وربما قيل فيها: أصدرت هذه المكاتبة أو أصدرناها. وأصل هذه المكاتبة أنـه كـان يكتـب فـي الدولـة السلجوقيـة ببغـداد والدولـة الأيوبيـة بالديـار المصريـة صـدرت هـذه الخدمة أو أصدرت هذه الخدمة. وربما كتب صدرت هذه الجملة فعدل عنـه كتـاب الزمان بالديار المصرية ومن قاربهم إلى التعبير بقولهم: صدرت هذه المكاتبة. على أن كتاب الزمان بالديار المصرية إنما أخذوها من صدور المكاتبات المفتتحة بالدعاء مثل أعز الله أنصار المقر حيث يقال في تصديرها أصدرناها ومثل ضاعف الله نعمة الجناب وأدام الله نعمة الجناب أو المجلس وما أشبه ذلك. حيث يقال فـي تصديرهـا: صـدرت هـذه المكاتبـة فجعلوا الصدور ابتداء. الأسلوب الثاني عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ هذه المكاتبة ويتخلـص منهـا إلـى المقصـود بنحـو ما وقع التخلص به في الأسلوب الذي قبله ويقع الاختتام بمثل ما وقع به اختتامه. وهـذه المكاتبـة مأخـوذة فـي الأصـل مـن ابتدائهم في الأسلوب الخامس بلفظ: كتابي إليك وما في معناه على أن كتاب الزمان إنما أخذوا ذلك من المكاتبة التي قبلها فجعلوا بعض الصدر فيها ابتداء كما جعلوا جميع الصدر ابتداءً في الأسلوب الذي قبله. الأسلوب الثالث عشر أن يفتتح الكتاب بالإعلام كمـا يكتـب كتـاب الزمـان: يعلـم فلـانٌ أن الأمر كذا وكذا والاختتام فيها بمثل الأسلوبين اللذين قبلها ولا تخلص فيها لأن الافتتاح فيها موصل إلى المقصود. على أن الصواب إثبات اللام في أولها بأن يقال: ليعلم فلان لأن لام الأمر لا يجوز حذفها على ما تقرر في آخر المقالة الثالثة. وعلى ذلـك كتـب غـازان أحـد ملـوك بنـي جنكزخـان ببغـداد ومـا معها إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون صاحب الديار المصرية وكتب الجواب عـن الملـك الناصـر إليـه كذلـك علـى مـا سيأتـي فـي موضعه إن شاء الله تعالى. الأسلوب الرابع عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ يخدم مثـل يخدم الجناب أو يخدم المجلس وما أشبه ذلك. ويكون التخلص منها بمثل: وينهي أو ويبدي ونحو ذلك ويقع الاختتام فيها بالدعاء. وهذه المكاتبة كانت مستعملةً في مكاتبات الفاضل بقلة وتداولها الكتاب بعد ذلك إلـى أن صـارت مستعملةً بين الكتاب في المكاتبات الدائرة بين أهل الدولة في زماننا ثم رفضت بعد ذلك وتركت حتى لم يستعملها منهم إلا القليل النادر. الأسلوب الخامس عشر أن يفتتح الكتاب بلفظ الخلافة أو المقام الذي شأنه كذا أو الإمارة التي شأنها كذا مثل خلافة فلان أو مقام فلان أو إمارة فلان وما أشبه ذلك. ثم يقع التخلص في ذلك بمثل: معظم مقامها يخصها بسلامٍ صفته كذا ويبدي لعلمها كذا وما أشبه ذلك. ويقع الاختتام فيها بالسلام وهذا الأسلوب مما اختص به كتاب المغرب لا سيما المتأخرون منهم على ما سيأتي ذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. قلت: ووراء هذه الأساليب أساليب أخرى لكتاب أهل الشرق والغرب بالديار المصرية في الأزمنة المتقدمة لا يأخذها المتقدمة لا يأخذها حصر ولا تدخل تحـت حـد وأكثـر مـا تكـون في الإخوانيات وسيأتي ذكر الكثير من أنواعها في مواضعها فيما بعد إن شاء الله تعالى. الجملة الثانية في المكاتبات إلى أهل الكفر وللكتاب فيه أسلوبان الأسلوب الأول أن تفتتح المكاتبة بلفظ من فلانٍ إلى فلان وعلى ذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الكفر وكان يكتب في مكاتباته صلى الله عليه وسلم: " السلام على من اتبع الهدى " بدل والسلام ويتخلص فيها بأما بعد تارةً وبغيرها أخرى وعلى ذلك جرى الخلفاء من الصحابـة رضـي اللـه عنهـم وخلفـاء بنـي أميـة وخلفاء بني العباس ببغداد ومن شاركهم في الأمر من ملوك بني بويه وبين سلجوق ومن في معناهم. وتختتم هذه المكاتبة تارةً بلفظ والسلام على من اتبع الهدى إن لم يذكر السلام في الأول وتارة بغير ذلك. الأسلوب الثاني أن تفتتح المكاتبة بالدعاء كما يكتب كتاب الزمان أطال الله بقاء الحضرة الفلانية: حضرة الملك الفلاني أو أطال الله بقاء الملـك الفلانـي ومـا أشبـه ذلك. وقد تقدم الخلاف في أصل جواز المكاتبة بالدعاء وما قيل في الدعاء بطول البقاء وما في معناه من الكراهة وأن جماعةً من العلماء والكتاب أجازوه. فـإن قيـل: علـى تقديـر جـواز ذلـك في حق المسلم فكيف يجوز في حق الكافر فالجواب أنه قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فسقاه يهـودي فقـال لـه: جملـك اللـه فمـا رؤي الشيـب فـي وجهـه حتـى مات فقد دعا صلى الله عليه وسلم ليهوديٍّ بالجمال وقد لا يكون في طول بقائه على الإسلام ضررٌ بل قد يكون فيه نفع كحمل جزية ونحوه وإنما يمنع الدعاء له تنبيـه اعلـم أن الأجوبـة قـد تفتتـح بمـا تفتتـح بـه الابتـداءات من الأساليب المتقدمة ثم يؤتى بالأجوبة في أثنائها مثل أن يقـال: وقـد وصـل كتـاب المجلـس أو الجنـاب أو وردت مكاتبتـه أو عرضـت مكاتبته على أمير المؤمنين أو على المسامع الشريفة وما أشبه ذلك. وقد يجعل الجواب ابتداءً فيفتتح الكتاب بنحو: عرضت مكاتبتك على أمير المؤمنين مثلاً كما كان يكتب في الزمن المتقدم أو عرضت المكاتبة الواصلة من جهة المجلس أو الجناب الفلاني على المسامع الشريفة أو وردت مكاتبته أو وصلت مكاتبته ونحو ذلـك ويؤتـى علـى مـا تضمنتـه المكاتبـة ومـا اقتضـاه الجواب عنه ثم يؤتى في الاختتام بنظير ما يؤتى به في المكاتبة المبتدأة. الطرف الثاني في ذكر لواحق المكاتبات ولوازمها وفيه ست جملٍ الجملة الأولى في الترجمة عن المكتوب عنه أما الترجمة عن السلطان فقد ذكر ابن شيـثٍ أن مصطلـح الدولـة الأيوبيـة أن يكتـب لأربـاب خدمته العلامة فإنها أليق به معهم. فإن أراد تمييز أحدٍ منهم كتب له بخطـه شيئـاً مكـان العلامة. وأن ترجمته للفقهاء والقضاة وذوي التنسك أخوه ولده. وذكر أن الأحسن أن يقال في ولـده محـل ولـده لقولـه تعالـى: وذكـر أن الفقهـاء وذوي التنسـك يترجمـون عـن أنفسهـم بالخادم ودون ذلك خادمه. قال: وربما ترفعوا عـن الترجمـة بهـذه اللفظـة مطلقـاً فقالـوا: الخـادم بالدعـاء الصالـح أو الخـادم بدعائه. قال: وأهل الورع خاصةً يترجمون بالفقير إلى رحمة الله. وربما راعوا المترجم له مثل أن يكـون ولـي الأمـر فيقـول: العبـد الفقيـر إلـى رحمـة الله ويعني أنه عبد الله ويحصل بذلك المقصود من الأدب مـع السلطـان. ومنهـم مـن يكتـب: الداعـي لدولتـه والمبتهـل بدعائـه الصالـح لأيامـه والمواظـب علـى خدمتـه بالدعاء وأمثال ذلك. قال: وأكثر الناس يرى الترجمة لولده فإن ترجم له لـم يسـم اسمـه لأنـه ليـس لـه والـدان ولا أقـل مـن أن يكـون بينـه وبيـن من يكتب بوالده غير الأب هذا الفرق فأما أن يقول: والده فلان بن فلان بحيث يذكر اسم أبيه فقبيحٌ. ثم قد كانوا في الزمن الأول يكتفون بذكر اسم المكتوب عنه في صدر الكتاب وعنوانه نحو: من فلانٍ إلى فلان ثم وقـد ذكر في ذخيرة الكتاب لذلك مراتب في الصدور والعنوان بعضها أعلى من بعض فجعل أعلاهـا بالنسبـة إلـى المكتوب عنه أن يكتب اسمه ودونه صديقه ودونه محبه ودونه شاكره ودونه المعتد به ودونه أخوه ودونه وليه ودونه عبده ودونه خادمه ودونه عبده وخادمه ودونه العبد ودونه العبد الخادم ودونه الصنيعة ودونه مملوكه ودونه المملوك ودونـه المملـوك الصنيعـة. وهـو الأعلـى بالنسبـة إلـى المكتـوب إليـه. ثـم قـال: ويتفـرع مـن هـذه الأصـول فـروعٌ كثيـرة لا تحصـر ممـا يختاره الكتاب ويقترحونه ويبتكرونه ويكاتبون به أصدقاءهم وأوداءهـم حسـب مـا يقتضيـه موداتهـم وتوجبه مصادفاتهم كصفي مودته والمفتخر بمحبته والمعتمد على أخوته وعبد مودته وخادم مجده وشاكر أياديه وحامد تفضله والمعتد بتطوله وما يجري هذا المجرى مما هو أوسع من أن يجمع وأكثر من أن يحصر ولكنه أكثر ما يكون بين النظراء والأقران. ورتـب عبـد الرحيـم بـن شيـث فـي معالـم الكتابـة ترتيبـاً آخـر فذكـر أن الترجمـة إلـى ديـوان الخلافة من ذوي الولايات كلهم العبد ومن المملوك كلهم الخـادم وأن الترجمـة إلـى المملـوك مـن الأجنـاد كلهـم المملوك مع النسبة إلى أشهر ألقاب الملك كالناصري للناصر والعادلي للعادل وما جرى مجرى ذلك. ودون المملوك في الخضوع: عبده وخادمه ودونه العبد مفردة. ودونه مملوكه ودونه العبد الخـادم لـأن الثانـي كأنـه ناسـخٌ للـأول ودونـه الخـادم ودونـه عبـده ودونـه خادمه ودونه شاكر إحسانه ودونه شاكر مودته ودونه وليه وصفيه ودونه محبه وواده وشاكره. ودونه الاسم ودونه العلامة. ثـم قـال: أمـا أصغـر المماليـك ومـا يجري مجراها فلا يليق من الأجانب. ورأيت في دستورٍ صغير فـي المكاتبـات يعـزى للمقـر الشهابـي بـن فضـل اللـه أن أكبـر الـآداب فـي اسـم المكتـوب عنـه بالنسبـة إلـى المكتـوب إليه المملوك ثم المملوك الرق ثم المملوك الأصغر ثم المملوك المحب ثم المملوك الداعي ثم مملوكه ومحبـه ثـم الخـادم ثـم خادمـه ثـم أخـوه ثـم محبـه ثـم شاكـره ثـم الفقيـر إلـى اللـه تعالـى. ولا يخفـى مـا في بعض هذه التراجم من التخالف بين ما ذكره وما تقدم ذكره عن ذخيرة الكتاب. والـذي استقـر عليـه الحـال فـي زماننـا فـي ترجمـة العلامـة بالقلـم الشريـف السلطاني أخوه ثم والده ثم الاسـم وفـي حـق غيـره المملـوك ثـم الاسـم. وربمـا كتـب بعضهـم العبـد بـدل الاسـم تواضعاً على أنهم قد اختلفوا في جواز الترجمة بالعبد والمملوك فذهب بعضهم إلى منع ذلك محتجاً بما روي أن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم قـال: " لا يقولـن أحدكـم عبـدي ولا أمتـي كلكـم عبيـد الله وكل نسائكم إماء الله ولكـن غلامـي وجاريتـي ". والـذي عليـه العمـل جـواز ذلـك احتجاجـاً بقولـه تعالـى: في العنوان وفيه سبع لغات حكاهـا صاحـب ذخيـرة الكتـاب. واقتصـر فـي صناعـة الكتـاب على ذكر بعضها: إحداها عنوان بضم العين وواو بعـد النـون. والثانيـة عنيـان بضـم العيـن ويـاء تحتيـة بعـد النـون. والثالثـة عنيـان بكسـر العين. والرابعة علوان بضم العين ولام بدل النون. والخامسة علوان بفتحها. والسادسة علوان بكسرها. والسابعة عليان بالكسر مع إبدال الواو ياء ويجمع عنوانٌ على عناوين وعلوان على علاويـن. ويقـال: عنونت الكتاب عنونةً وعلونته علونة وعننته بنونين الأولى منهما مشددة تعنيناً وعنيته بنون مشددة بعدها ياء تعنيةً وعنوته أعنوه عنواً بفتح العين وسكون النون وعنواً بضمهما وتشديد الواو. واختلـف في اشتقاقه فمن قال عنوان جعله مأخوذاً من العنوان بمعنى الأثر لأن عنوان الكتاب أثربيـان ممـن هـو وإلـى مـن هـو. قـال النحـاس: وأكثـر الكتـاب لا يعـرف غيـر هـذا واحتجـوا لذلك بقول الشاعر يذكر قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه: بسيط ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا وزعـم بعضهـم أن العنـوان مأخـوذ مـن قـول العـرب: عنـت الـأرض تعنـو إذا أخرجـت النبـات وأعناهـا المطـر إذا أظهـر نباتهـا. قـال النحـاس: فيكـون عنوانٌ على هذا فعلاناً ينصرف في النكرة ولا ينصـرف فـي المعرفـة. وقيـل هـو مأخـوذٌ مـن عـن يعـن إذا عـرض وبـدا. قال النحاس: فعلى هذا ينصرف في النكرة والمعرفة لأنه فعلال. ومن قال: علوان أبدل من النون لاماً كما في صيدلاني وصيدناني فيكون الاشتقاق واحداً. وقيل علوان مشتقٌّ من العلانية لأنه خطٌّ ظاهرٌ على الكتاب. ومـن قـال: عنيـان وعنيـان جعلـه مـن عنيـت فلانـاً بكـذا إذا قصدتـه. قال في مواد البيان: والعنوان كالعلامـة وهـو دالٌ علـى مرتبـة بالمكتـوب إليه من المكتوب عنه. والأصل فيه الإخبار عن اسمهما حتـى لا يكـون الكتـاب مجهـولاً والمـراد أنـه يكتـب فيه من فلان إلى فلانٍ أو لفلان من فلان قال: ولم يزالوا يكاتبون بأسمائهم إلى أن ولي عمر بن الخطاب رضـي اللـه عنـه الخلافـة ولقـب بأميـر المؤمنين فكتب: من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب. ثم وقع الاصطلاح على العنونة للرؤساء والنظراء والمرؤوسين والأتباع بالأسماء ثم تغير هذا الاسم أيضاً. وكان المأمون يكتب في أول عنوانات كتبه: بسم الله الرحمن الرحيم فكانت تكتب قبل اسم المكتوب إليه والمكتوب عنه. وقد ذكر أبو جعفرٍ النحاس أن ذلك بقي إلى زمانه وكان بعد الثلثمائـة. قـال فـي مـواد البيـان: ثـم بطـل بعـد ذلـك. قـال: والأصـل فيـه أن يبتـدأ باسـم المكتـوب عنـه ثم باسم المكتوب إليه وهو الترتيب الذي تشهد به العقول لأن نفوذ الكتاب من المكتوب عنه إلى المكتوب إليه كنشء الشيء وخروجه من ابتداء إلى نهاية. فابتدأوه من المكتوب عنـه وانتهاؤه إلى المكتوب إليه ولفظ من يتقدم لفظ إلى بالطبع لأن حرف من ينبيء عن منشـإ الشيء وإلى حرف يخبر عن النهاية التي عندها قرار الشيء والابتداآت في الأشياء قبل النهايات. قال: وعلى هذا كانت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سلف من الأمم الماضية ثم عرض للناس رأيٌ في تغيير هذا الرسم إلى غيره ففرقوا بين مراتب المكاتبين من الرؤساء والعظماء والخدم والأتباع بتقديم اسم المكتوب إليه إذا قصدوا إعظامه وإجلاله وتأخير اسم المكتوب عنه ورأوا أنه الصواب الصحيح. على أن كتاب زماننا يقتصرون في أكثر عنواناتهم على ذكر المكتوب إليه دون المكتوب عنه ولا يذكرون المكتوب عنه إلا في مكاتباتٍ خاصة قليلـةٍ. قـال فـي صناعـة الكتـاب: ولا يتكنـى المكتـوب عنـه علـى نظيـره بـل يتسمى له ولمن فوقه ثم يقول: المعروف بأبي فلان. وإن كانت كنيته أشهر من اسمه واسم أبيه جاز أن يكتب كنيته بغيـر ألـف ويجريهـا مجـرى الأسـم. قـال النحـاس: وإن كـان الكتـاب إلـى اثنيـن أحدهما أكبر من الآخر فيقـدم الأكبـر وكذلـك لـو كـان إلـى ثلاثـة. قال أبو جعفر النحاس: وقد استحسن جماعةٌ أن يصغر اسم المكتوب عنه على عنوانات الكتب ورأوا أن ذلك تواضعٌ وما ذكره هـو المستعمـل فـي المكاتبـات الجـاري عليـه حكـم الدواويـن إلـى زماننـا. والأصـل في ذلك ما ذكره النحاس أن الحجاج بن يوسف كتب إلى عبد الملك بن مروان وهو خليفةٌ في طومار: لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنيـن ثـم كتـب فـي طرتـه بقلـمٍ ضئيـل: مـن الحجـاج بـن يوسـف فجرى الكتاب على أسلوبه فيما بعد. قال في معالم الكتابة: ولا يكثر النعوت ولا الدعاء على العنوان للسلطان ولا الكبراء أما من الأعلى إلى الأدنى فحسنٌ. وقد تقدم في مقدمة الكتاب أن صاحب ديوان الإنشاء هو الذي يعنون الكتب السلطانية وأنها كانت لا تعنون قبل كتابة السلطان عليها علامته. والذي استقر عليـه الحال في كتب السلطان وما في معناها من المشتملة على الألقاب أن تكتب الألقاب في العنوان ويدعى فيها بدعوة واحدة وهي المفتتح بها المكاتبة. الجملة الثالثة في طي الكتاب وختمه أما طيه فمعروف وهو أن يلف بعضه على بعض لفاً خاصاً. والطي في اللغة خلاف النشر ويقال: طوى الكتاب يطويه طياً ومنه قوله تعالى: " يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب " والترتيب في ذلك أن تكون الكتابة إلى داخل الكتاب لأن المقصود صون المكتوب فيه. ثم للناس في صورة الطي طريقتان: الطريقة الأولى أن يكون لفه مدوراً كأنبوبة الرمح وهي طريقة كتاب الشرق من قديم الزمان وإلى الآن. والطريقة الثانية أن يكون طيه مبسوطاً في قدر عرض أربعة أصابع مطبوقة وعلى ذلك كان الحال جارياً في الدولة الأيوبية بالديار المصرية. فقد ذكر عبد الرحيم بن شيث من كتاب دولتهم أن طي الكتب السلطانية يكون عرض أربعة أصابع وكذلك من العلية إلى من دونهم أمـا الكتـاب مـن الأدنـى إلـى الأعلـى فـلا يتجـاوز بـه عـرض إصبعيـن وهـذا ظاهـر في أن الطي يكون عريضاً لا مدوراً وهي طريقة أهل المغرب والروم والفرنج. وأما ختمه فالختم مصـدر ختـم يقـال: ختـم الكتـاب يختمـه ختمـاً ومعنـاه الطبـع ومنـه قولـه تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم " والمراد شد رأس الكتاب والطبع عليه بالخاتم حتى لا يطلع أحدٌ على ما في باطنه حتى يفضه المكتوب إليه على ما سيأتي ذكره إن شاء اللـه تعالـى. وهـو أمـر مطلـوبٌ مرغـب فيـه فمـن كلـام عمـر رضـي اللـه عنه: " طينةٌ خيرٌ من ظنة " يعنـي أن ختم الكتاب بطينةٍ خيرٌ من ظنة تقع في الكتاب بالنظر فيه أو زيادةٍ أو نقص والظنة التهمة. ومن كلام غيره: اختم تسلم. ومن كلام غيره: إن طينت وإلا وقعت. يعني إن طينت الكتـاب وإلا وقعـت فـي المحـذور. ويقـال: إن فـي ختـم الكتـاب تعظيمـاً للمكتـوب إليـه. قـال بزرجمهـر أحـد ملـوك الفـرس: مـن لـم يختم كتاباً فقد استخف بصاحبه وجهل في رأيه. وقد قيل: إن أول مـن ختـم الكتـاب سليمـان عليـه السلام وقد فسر قوله تعالى حكايةً عن بلقيس: وعلـى نهجـه فـي ذلـك جـرت ملـوك العجـم. قـال فـي مـواد البيان: ولم تزل كتب العرب منشورة حتى كتب عمرو بن هندٍ الصحيفة إلى المتلمس فقرأها ولـم يوصلهـا فختمـت العـرب الكتـب مـن حينئـذٍ. وقـد ورد فـي الحديـث أن النبـي صلـى اللـه عليـه وسلـم أراد أن يكتـب إلـى بعـض العجـم فقيل له: يا رسول الله إنهم لا يقرأون كتاباً غير مختومٍ فأمر أن يتخذ له خاتم حديدٍ فوضعه في إصبعه فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: انبذه من إصبعك فنبذه وأمره أن يتخذ له خاتم نحاسٍ فوضعه في إصبعه فأتاه جبريل عليه السلام فقال: انبذه من إصبعك فنبذه ثم أمر أن يتخذ له خاتمٌ فاتخذ له خاتمٌ من فضة فختم به وكتب إلى أن من أراد أن يكتـب مـن الأعاجـم ونقـش عليـه محمـدٌ رسـول اللـه ثلاثـة أسطر وكان الخاتم في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله تعالى ثم تختم به أبو بكر رضي الله عنه حتى قبـض ثـم تختـم بـه عمـر بـن الخطـاب رضـي اللـه عنـه حتـى قتـل ثـم تختم به عثمان رضي الله عنه فبينمـا هـو ذات يـومٍ علـى بئـر أريـس من بئار المدينة إذ عبث بالخاتم فسقط من يده فنزح كل ما كان في البئر من الماء فلم يوجد فلما يئس منه أمر أن يصاغ له خاتمٌ مثله وينقش عليه محمد رسول الله ففعل ذلك وتختم به. هكذا أورده صاحب ذخيرة الكتاب وبعضه في الصحيح. وقيل: إن نقش الخاتم الذي اتخذه كان آمنت بالذي خلق فسوى. وقيل: كان نقشه لتصبرن أو لتندمن. ثم كان لكل من الخلفاء بعد عثمان رضي الله عنه خاتمٌ يختم به عليه نقشٌ مخصوصٌ فكان نقـش خاتـم أميـر المؤمنيـن علـي بـن أبـي طالـب رضـي اللـه عنه الملك لله الواحد القهار ونقش خاتم ابنه الحسن لا إله إلا الله الملك الحق المبين ونقش خاتم معاوية بن أبي سفيان لكل عملٍ ثوابٌ وقيل: لا قوة إلا بالله ونقش خاتم يزيد بن معاوية ربنا الله ونقش خاتم معاوية بن يزيد الدنيا غـرور ونقـش خاتـم مـروان ابـن الحكـم اللـه ثقتـي ورجائـي ونقش خاتم عبد الملك ابن مروان آمنت بالله مخلصاً ونقش خاتم الوليد بن عبد الملك يا وليد إنك ميت ومحاسب! ونقش خاتم عمر بـن عبـد العزيـز عمـر بـن عبـد العزيـز يؤمن بالله. ونقش خاتم يزيد بن عبد الملك قني السيئات يا عزيـز ونقـش خاتـم هشـام بـن عبـد الملـك الحكـم للحكـم الحكيـم ونقـش خاتم الوليد بن يزيد يا وليد احـذر المـوت ونقـش خاتـم يزيـد بـن الوليد يا يزيد قم بالحق ونقش خاتم إبراهيم بن الوليد توكلت على الحي القيوم ونقش خاتم مروان بن محمد اذكر الله يا غافل. وكان نقش خاتم السفاح أول خلفاء بني العباس الله ثقة عبد الله ونقش خاتم المهدي حسبي اللـه ونقـش خاتـم الرشيـد العظمة والقدرة لله. وقيل: كن من الله على حذر ونقش خاتم الأمين محمـدٌ واثـقٌ باللـه ونقـش خاتـم المأمـون سل الله يعطيك ونقش خاتم المعتصم الله ثقة أبي إسحاق بن الرشيد وبه يؤمن ونقش خاتم الواثق الله ثقة الواثق ونقش خاتم المتوكل على الحي اتكالي ونقـش خاتـم المنتصـر يؤتـى الحـذر مـن مأمنـه ونقـش خاتـم المستعيـن فـي الاعتبـار غناء عن الاختبار ونقش خاتم المعتز الحمد لله رب كل شيء وخالق كل شيء ونقش خاتم المهتدي من تعدى الحق ضاقت مذاهبه ونقش خاتـم المعتمـد السعيـد مـن وعـظ بغيـره ونقـش خاتـم المعتضـد الاضطـرار يزيـل الاختيـار ونقـش خاتم المكتفي بالله علي بن أحمد يثق ونقش خاتم المقتدر بالله الحمد لله الذي ليس كمثله شيءٌ وهو خالق كل شيءٍ ونقش خاتم القاهر محمدٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقش خاتم المتقي المتقي لله كلقبه للخلافة ونقـش خاتـم المستكفـي المستكفي بالله يثق ولم أقف على نقش خاتم أحد من الخلفاء غير هؤلاء. واعلـم أنـه كـان للختـم فـي أيـام الخلفـاء ديـوانٌ مفـرد يعبـر عنـه بديـوان الخاتـم. وقـد اختلـف فـي أول مـن اتخـذ ديـوان الخاتـم فـروى محمـد بـن عمـر المدائنـي فـي كتـاب القلـم والـدواة بسنـده إلـى ابـن عمـر رضـي اللـه عنـه أنـه قـال: لـم يكن أبو بكر ولا عمر يلبسون خواتم ولا يطبعون كتاباً حتى كتب زياد بن أبي سفيان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنك تكتب إلينا بأشياء ليست لها طوابع فاتخذ عند ذلك عمر طابعاً يطبع به وخزم الكتاب ولم يكن قبل يخزم. ومقتضـى ذلـك أن يكـون أول مـن اتخذ الختم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويكون لبسه خاتم النبي صلـى اللـه عليـه وسلـم لغيـر الختـم. وذكـر الطبـري فـي تاريخـه: أن أول مـن اتخـذ ذلـك معاويـة بـن أبي سفيان في خلافته وذلك أنه أمر لعمرو بن الزبير بمائة ألفٍ من عند زياد ففتح الكتاب وجعـل المائة مائتين فلما رفع زيادٌ حسابه أنكر ذلك معاوية وطلب عمراً فحبسه حتى قضاها عنـه أخـوه عبـد اللـه بـن الزبيـر واتخـذ معاويـة حينئـذ ديـوان الختـم وخـزم الكتـاب ولم يكن قبل يخزم. قـال القاضـي ولـي الديـن بـن خلـدون فـي تاريخـه: وديـوان الختـم عبـارةٌ عـن الكتـاب القائميـن علـى إنفاذ كتب السلطان. قال: وهذا الخاتم خاصٌّ بديوان الرسائل وكان ذلك للوزير فـي أيـام الدولـة العباسية. ويشهد لذلك قول الرشيد ليحيى بن خالدٍ لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل به مـن الفضـل أخيـه: إنـي أحـول الخاتـم مـن يمينـي إلـى شمالـي فكنى بالخاتم عن الوزارة لانضمام ديوان ثم للختم ثلاث صور: الصورة الأولى أن يلصق رأس الكتاب بنوع من أنواع اللصـاق كالكثيـراء المدافـة بالمـاء والنشـا المطبوخ ونحو ذلك. وهذا هو المستعمل بالديار المصرية وبلاد المشرق من قديم الزمان وهلم جـراً إلـى زماننـا والمستعمـل بالدواوين هو النشادون غيره لنصاعة بياضه وشدة لصاقه. قال في مواد البيان: ويجب أن يكون اللصاق خفيفاً كالدهن لئلا يتكرس ويكثف في جانب الورق. وقـد كانـت عادتهـم فـي بلـاد المشـرق أيـام الخلفـاء أن يختـم بـه بخاتـم الخليفـة بـأن يغمـس في طين معد لذلك أحمر الصبغ ويختم به على طرفي اللصاق ليقوم مقام علامة الخليفة. وكان هذا الطين يجلب إليهم من سيراف من بلاد فارس وكأنه مخصوص بها وعلى نهـج الخلفـاء جـرى الملـوك حينئذ. والذي آستقر عليه بالديار المصرية ونحوها من بلاد الشرقيـة الاقتصـار علـى مجـرد اللصاق آكتفاء بما فيه من الضبط وظهور فضه إن فض. وهذه مسألة مما سأله الشيخ جمال الديـن بـن نباتـه كتـاب ديـوان الإنشـاء بدمشـق مخاطبـاً بـه لشيخ جمال الدين محمود الحلبي فقال: ومن ختـم الكتـاب بالطيـن وربطـه ومن غير الطين إلى النشا وسائر أنواع اللصاق في الكلام في على آلات الدواة في المقالة الأولى. الصورة الثانية أن يحزم الكتاب من وسطه بالأشفار حتى تنفذ في بعض طيات الكتاب ثم الكتاب ثم تخرج من الورق أيضاً ويدخل فيه دسرة من الورق كالسير الصغير ويقط طرف الدسـرة ثم يلصق على ذلك بشمع أحمر ثم يختم عليه بختم يظهر نقشه فيه ويسمى هذا النوع مـن الختـم الخـزم بالخـاء والـزاي المعجمتيـن أخـذاً مـن خـزم البعيـر وهو أن يثقب أنفه ويجعل فيه خيط أو نحـوه. . ولعل هذه الطريقة من الختم في صدر الإسلام ويدل على قول ابن عمر رضي الله عنـه فـي روايـة الطبـري المتقدمـة: وخـزم الكتـاب ولـم يكـن قبل يحزم. وعلى هذا الآن أهل المغرب والروم والفرنج ومن في معناهم. الصورة الثالثة أن يلف على الكتاب بعد طيه قصاصة من الـورق كالسيـر فـي عـرض رأس الخنصـر وتلـف علـى الكتـاب ثـم يلصـق رأسهـا ويكـون ذلـك فـي الرقـاع الصغيرة المترددة بين الإخوان وتسمـى القصاصـة التـي يلصـق بهـا سحـاءة بفتـح السين وبالمد وتقال بكسر السين أيضاً وربما فيل سحاية ويقال فيه: سحوت الكتاب أسحوه سحواً وسحيته بالتشديد أسحيه تسحيه فهو مسحو ومسحي ومسحـى والأمـر مـن سحـوت الكتـاب أسـح ومـن سحيتـه بالتشديـد سـح وأصله من السحو وهو القشر. يقال: سحوت اللحم عن العظم إذا قشرته. الجملة الرابعة وهو من جملة الأمانات الداخلة في عموم قوله تعالى: إن " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ". وقد روي عن أبى هريرة رضي الله عنه أنه قال: من أعظم الأمانة أداء الكتاب إلى أهله. قال محمد بن عمر المدائني: حمل الكتاب أمانةٌ وترك إيصاله خيانة. وقد روي أن النبي صلـى اللـه عليـه وسلـم قـال: " مـن بلـغ كتـاب غـازٍ فـي سبيـل اللـه إلـى أهلـه أو كتـاب أهلـه إليـه كـان لـه بكـل حـرفٍ عتـق رقبـةٍ وأعطـاه اللـه كتابـه بيمينـه وكتـب لـه بـراءةْ مـن النـار " وقـد نطق القرآن الكريم بتأديـة الهدهد كتاب سليمان عليه السلام إلى بلقيس حيث قال حكايةً عن سليمان: " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم " إلى أن قال: وقد وردت الأحاديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث كتبه مع رسله إلى الملوك بعـث عبـد اللـه بـن حذافـة إلـى كسـرى أبرويـز ملـك الفـرس وبعـث دحيـة الكبـي إلى قيصر ملك الروم وبعث حاطب بن أبي بلعتة إلى المقوقس صاحب مصر وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى الضحاك ملك الحبشة وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغسانـي وبعـث سليـط بـن عمـرو إلـى هـوذة بـن علـي صاحـب اليمامـة وبعـث العـلاء بن الحضرمي إلى المنذر بـن سـاوى ملـك البحريـن وبعـث عمـرو بـن العـاص إلـى عبـد وجيفـرٍ ابنـي الجلنـدي ملكي عمان. قال ابن الجوزي: وبعث جرير بن عبد الله البجلي إلى ذي الكلاع الحميري. واعلم أنه يجب أن يكون حامل الكتاب المؤدى له عن الملك ونحوه وافر العقل شديد الشكيمة فـي الجـواب طلق اللسان في المحاورة فإنه لسان ملكه وترجمان مرسله وربما سأله المكتوب إليه عـن شـيءٍ أو أورد عليـه اعتراضـاً فيكـون بصـدد إجابتـه. وقد قيل: إنه يستدل على عقل الرجل بكتابـه ورسولـه. ومـن غريـب مـا يـروى فـي ذلـك مـا ذكـره ابـن عبـد الحكم أن النبي صلى الله عليه وسلـم لما بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب مصر وبلغه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ما منعه أن يدعو علي فيسلط علي قال له حاطبٌ: ما منع عيسى أن يدعو على من أبي عليه أن يفعل ويفعل فوجم ساعة ثم استعادها فأعادها عليه حاطبٌ فسكـت. ويـروى أنـه حيـن سألـه عـن أمـر النبـي صلـى اللـه عليه وسلم في حرب قومه وذكر له أن الحـرب تكـون بينهـم سجـالاً تارةً له وتارةً عليه قال له المقوقس: النبي يغلب! فقال له حاطب: فالإلـه يصلـب! يشيـر بذلـك إلـى مـا تزعمـه النصـارى من أن المسيح عليه السلام صلب مع دعواهم فيه أنه إلهٌ. وذكـر السهيلـي أن دحيـة الكلبـي حين دخل على قيصر بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم قال له دحية: هل تعلم أكان المسيح يصلي قال نعم قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيح يصلي لـه وأدعـوك إلى من دبر خلق السموات والأرض والمسيح في بطن أمه. فألزمه من صلاة المسيح فقررتـه بصلـاة المسيـح وكانت من الجوهر الأحمر ويحكى أن بعض ملوك الروم كتب إلى خليفة زمانه يطلب منه من يناظر علماء النصرانية عنده فإن قطعهم أسلموا فوجه إليه بالقاضي أبي بكر بن الطيب المالكي وكـان مـن أئمـة علمـاء زمانه فلما حضر المجلس واجتمع لديه علماء النصارى قال له بعضهم: إن معتقدكم أن الأنبياء عليهم السلام معصومون في الفراش وقد رميت عائشة بما رميت به. فإن كان ما رميت به حقاً كان ناقضاً لأصلكم الذي أصلتموه في عصمة الأنبياء في الفراش وإن كان غير حقٍّ كان مؤثـراً فـي إيمـان مـن وقـع منـه. فقـال القاضـي أبـو بكـرٍ: إمرأتـان حصينتـان رميتا بالفرية إحداهما لها زوجٌ ولا ولد لها والأخرى لها ولدٌ ولا زوج لها يشيـر بالأولـى إلـى عائشـة رضـي اللـه عنهـا وبالثانيـة إلـى مريـم عليهـا السلـام فسجـدوا له على عادة تحيتهم في ذلك إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى كثرةً. فإذا كان الرسول متمكناً من عقله عالماً بما يأتي وما يذر كفى ملكه مؤونة غيبته وأجاب عن كل ما يسأل عنه وإذا كان بخلاف ذلك انعكست القضية ورجع على مرسله بالوبال. ثم إن اقتضـى رأي الملـك زيادةً في الرسالة على الرسول الواحد فعل ليتعاونا على ما فيه المصلحة ويتشـاورا فيمـا يفعلان فقد ذكر السهيلي أن جبراً مولى أبي ذر الغفاري كان رسولاً مع حاطب ابن أبي بلتعة إلى المقوقس. وإن اقتضى الحال إرسال أكثر من اثنين أيضاً فعل فقد ذكر ابن الجوزي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته بعث إلى قيصر ثلاثة رسل وهم: هشام بن العاص ونعيم بن عبد الله ورجل آخر. ومما يجب التنبيه عليه أنه يحرم على حامل الكتاب النظر فيه والاطلاع على ما تضمنه. قال محمد بن عمر المدائني: في فض الكتاب إثمٌ وسوء أدب. وسـاق بسنـده إلـى معـاذ بـن جبـل رضـي اللـه عنـه أنـه قـال: قـال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اطلع في كتاب أخيه بغير إدنه أطلعه طلعةً في النار " الجملة الخامسة في فض الكتاب وقراءته أمـا فضـه فالمـراد فـك ختمـه وفتحـه والفـض فـي أصل اللغة الكسر والتفريق ومن الأول ما ثبت في الصحيـح مـن قـول القائلـة لابـن عمها في قصة الثلاثة الذين دعوا الله بأحب أعمالهم: إتق الله ولا تفـض الخاتـم إلا بحقـه. تريـد إزالـة بكارتهـا. ومـن الثانـي واعلم أن لفض الكتاب حالتين: الحالة الأولى أن يكون مختوماً باللصاق بالنشا على طريقة المشارقة وأهل الديار المصرية فيشيق ظاهره على القرب من محل اللصاق بسكين ثم يفتح. الحالة الثانية أن يكون مخزوماً مسمراً بدسرة من الورق على عادة المغاربة ومن جرى مجراهم فيرفع الختم الملصق عليه من الشمع وتقلع الدسرة ويفتح الكتاب. وأما قراءة الكتب فإنه يجب أن يكون من يقرأ الكتب على الملوك ومن في معناهم ماهراً في القـراءة فصيـح اللسـان فـي النطـق رقيـق حاشيـة اللسـان فـي حسـن الإيـراد قوي الملكة في استخراج الخطـوط المختلفـة سريـع الفهـم فـي إدراك المعانـي الخفيـة وأن تكـون قراءتـه علـى رئيسـه من سلطان إلى غيره بحسب ما يؤثر ملكه أو أميره سماعه من السرعة والبطء وأن يكون ذلـك بصـوتٍ غيـر خفي بحيث يعسر سماعه ولا مرتفع بحيث يعد صاحبه خارجاً عن أدب المخاطبة للأكابر وأن يقرب لمن يقرأ عليه فهم المقاصد التي اعتاضت عليه إذا سأله عنها أو غلب على ظنـه أنهـا لم تصل إلى فهمه بحسن إيراد وتلطيف عبارة يحسن موقعها في النفوس ويجمل وقعها في الأذهان. الجملة السادسة في كراهة طرح الكتاب بعد تخزيقه وهو فضه وحفظه بعد ذلك في الإضبارة أمـا كراهـة طرحـه فقـد قـال محمد بن عمر المدائني في كتاب القلم والدواة: كرهوا تخزيق الرسائل ورميها في الطرق والمزابل خوفاً على اسم الله تعالى أن يداس أو تلحقه النجاسة والأدناس. قـال: وفـي رفـع مـا طـرح مـن الكتـاب أعظـم الرغائـب وأجـل الثـواب وساق بسنده إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما من كتـاب يلقـى ببقعـةٍ من الأرض فيه اسم من أسماء الله إلا بعث الله إليه سبعين ألف ملكٍ يحفونه بأجنحتهم ويقدسونه حتى يبعث الله إليه ولياً من أوليائه فيرفعه من الأرض. ومن رفع كتاباً مـن الـأرض فيـه اسـمٌ مـن أسمـاء اللـه تعالـى رفـع اللـه اسمـه فـي علييـن وخفـف عـن والديـه العذاب وإن كانـا مشركيـن " ويـروى: مـن رفـع قرطاساً من الأرض فيه مكتوبٌ بسم الله الرحمن الرحيم إجلالاً وأما حفظه في الإضبارة فهو أمر مطلوب والإضبارة عبارةٌ عن ورقةٍ تلف على جملة من الكتـب قـد جمعت في داخلها ويلصق طرفها بالنشا. والقاعدة فيها أن تلوى الكسرة من أسفلها وإن طال بعضها في طيه وقصر بعض جعل التفاوت في الطول والقصر من أعلاها. قال في صناعـة الكتـاب: ومعناهـا الجمع لأنها يجمع بعضها إلى بعض. ومنه قيل: تضبر القوم إذا تجمعوا ورجل مضبر الخلق أي مجتمعه وناقة مضبرة ومضبورة وضبر الفرس إذا جمع قوائمه ووثـب. ويقال للإضبارة أيضاً إضامةٌ بكسر الهمزة وتشديد الميم لضم بعضها إلى بعض والمعنى فيها صيانة الكتب وحفظها عن الضياع. وقد جرت عادة كتاب ديوان الإنشاء بالديار المصرية أن يجعـل لكـل شهـر إضبـارةٌ تجمع فيها الكتب الواردة على أبواب السلطان من أهل المملكة وغيرهم ويكتب عليها شهر كذا. وقد سبق القول في مقدمة الكتاب أن الديوان كان له في زمـن الفاطميين كاتبٌ يكتب الكتب الواصلة ويبسط عليها جرائد كما يكتب الكتب الصادرة عن الأبـواب السلطانيـة ويبسط عليها جرائد وأن ذلك بطل في زماننا وصار الأمر قاصراً فيها على حفـظ الكتـب فـي الإضبـارات متـى احتيـج إلـى الكشـف عـن كتـاب منهـا أخـذ بالحدس أنه ورد في السنـة الفلانيـة وتكشف إضباراتها واحدةً بعد واحدة حتى يقع العثور عليه ولا خفاء فيما في ذلك من المشقة بخلـاف مـا إذا كـان لهـا جرائـد مبسوطـة فإنـه سهـل الكشـف منهـا ويستـدل
|