الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)
.ذكر وقعة عكا: وذلك أنه لما بلغ السلطان حركة الإفرنج إلى تلك الجهة عظم عليه ولم ير المسارعة خوفاً من أن يكون قصدهم ترحيله عن الشقيف لا قصد المكان فأقام مستكشفاً للحال إلى ثاني عشر رجب فوصل قاصداً آخر أن الإفرنج في بقية ذلك اليوم رحلوا ونزلوا عين بصة ووصل أوائلهم إلى الزيت فعظم ذلك عنده وكتب إلى سائر أرباب الأطراف يتقدمون بالعساكر الإسلامية بالمسير إلى المخيم المحروس وعاد فجدد الكتب والحث وتقدم إلى الثقل أن سار الليل وأصبح هو صبيحة الثالث عشر سائراً إلى عكا على طريق طبرية إذ لم يكن ثم طريق يسع العساكر إلا هو وسير جماعة على طريق تبنين يستطلعون العدو ويواصلون بإخباره وسرنا حتى أتينا الحولة منتصف النهار فنزل بها ساعة ثم رحل وسار طول الليل حتى أتينا موضعاً يقال له المنية صباح اليوم الرابع عشر وفيه بلغنا نزول الإفرنج على عكا يوم الاثنين الثالث عشر وسير صاحب الشقيف إلى دمشق بعد الإهانة الشديدة على سوء صنيعه وسار هو جريدة من المنية حتى اجتمع ببقية العسكر الذي كان أنفذه على طريق تبنين بمرج صفورية فإن كان واعدهم إليه وتقدم إلى الثقل أن يلحقه إلى مرج صفورية ولم يزل حتى شارف العدو من الخروبة وبعث بعض العسكر ودخل عكا على غرة من العدو تقوية لمن فيها ولم يزل يبعث إليها بعثاً بعد بعث حتى حصل فيها خلق كثير وعدد وافر ورتب العسكر ميمنة وميسرة وقلباً وسار من الخروبة وكان قد نزل عليها خامس عشر الشهر فسار منها حتى أتى تل كيسان في أوائل مرج عكا وأمر الناس أن ينزلوا به على تلك التعبية وكان آخر الميسرة على طرف النهر الحلو وآخر الميمنة مقارب تل العياضية فاحتاط العسكر الإسلامي المنصور بالعدو المخذول وأخذ عليهم الطرف من الجوانب وتلاحقت العساكر الإسلامية واجتمعت ورتب اليزك الدائم والجاليش في كل يوم مع العدو وحصر العدو في خيامه من كل جانب بحيث لا يقدر أن يخرج منها واحد إلا ويجرح أو يقتل وكان معسكر العدو على شطر من عكا وخيمة ملكهم على تل المصليين قريباً من باب البلد وكان عدد راكبهم ألفي فارس وعدد راجلهم ثلاثين ألفاً وما رأيت من أنقصهم عن ذلك ورأيت من حزرهم بزيادة على ذلك ومددهم من البحر لا ينقطع وجرى بينهم وبين اليزك مقاتلات عظيمة متواترة والمسلمون يتهافتون على قتالهم والسلطان يمنعهم من ذلك إلى وقته والبعوث من العساكر الإسلامية تتواصل والملوك والأمراء من الأقطار تتابع فأول من وصل الأمير الكبير مظفر الدين بن زين الدين، ثم قدم بعده الملك المظفر صاحب حماة وفي أثناء هذا الحال توفي حسام الدين سنقر الأخلاطي وأسف المسلمون عليه أسفاً شديداً فإنه كان شجاعاً ديّناً، ثم إن الإفرنج لما تكاثروا واستفحل أمرهم استداروا بعكا حيث منعوا من الدخول والخروج وذلك في يوم الخميس سلخ رجب، ولما رأى السلطان ذلك عظم لديه وضاق صدره وثارت همته العلية وفتح الطريق إلى عكا لتستمر السابلة إليها بالميرة والنجدة وغير ذلك فأحضر أمراءه وأصحاب الرأي من دولته وشاورهم في مضايقة القوم وانفصل لحمال على أنه يضايقهم مضايقة شديدة بحيث ينفصل أمرهم بالكلية ويفتح وباب والطريق إلى عكا فباكرهم صبيحة الجمعة مستهل شعبان وسار مع العسكر القد رتبه للقتال ميمنة وميسرة وقلباً وضايقهم مضايقة شديدة وكانت الحملة بعد صلاة الجمعة اغتناماً لدعاء الخطباء على المنابر وجرت حملات عظيمة وقلبات كثيرة واتصل الحرب إلى أن حال بين الفئتين هجوم الليل وبات الناس على حالهم من الجانبين شاكي السلاح تحرس كل طائفة نفسها من الطائفة الأخرى..ذكر فتح الطريق إلى عكا: ولما كانت صبيحة السبت أصبح الناس على القتال وأنفذ السلطان طائفة من شجعان المسلمين إلى البحر من شمالي عكا ولم يكن هناك للعدو خيم لكن العسكر كان قد امتد جريدة إلى البحر فحملوا عليهم فانكسروا بين أيديهم كسرة عظيمة وقتلوا منهم جمعاً كثيراً وانكف السالمون منهم إلى خيامهم وهجم المسلمون خلفهم إلى أوائل خيامهم وانفتح الطريق إلى عكا من باب القلعة المسماة بقلعة الملك إلى باب قراقوش الذي جدده وصار الطريق مهيعاً يمر فيه السوقي ومعه الحوائج ويمر به الرجل الواحد والمرأة واليزك بين الطريق وبين العدو مانعاً من يخرج من عسكرهم أو يدخل ودخل السلطان في ذلك اليوم إلى عكا ورقي على السور ونظر إلى عسكر العدو تحت السور وفرح المسلمون بنصر الله وخرج العسكر الذي كان في خدمة السلطان واستدار العسكر الإسلامي حول المعسكر الإفرنجي وأحدقوا بهم من كل جانب، ولما استقر به ذلك تراجع الناس عن القتال وذلك بعد الظهر لسقي الدواب وأخذ الراحة وكان نزولهم على أنهم إذا أخذوا حظاً من الراحة عادوا إلى القتال لمناجزة القوم وضاق الوقت وأخذ الضجر والتعب من الناس فلم يرجعوا إلى القتال في ذلك اليوم وبات الناس على أنهم يصبحونهم بكرة الأحد إلى القتال رجاء المناجزة بالكلية واختفى العدو في خيامهم بحيث لم يظهر منهم أحد. ولما كانت بكرة الأحد ثالث شعبان تعبى الناس للقتال وأحدقوا بالعدو وعزموا على مهاجمة القوم وعلى أن يترجل الأمراء ومعظم العسكر ويقاتلوا العدو في خيامه فلما تهيئوا لذلك رأى بعض الأمراء تأخير ذلك إلى بكرة الاثنين رابع شعبان وأن يدخل الراجل كله إلى داخل عكا ويخرجوا مع العسكر المقيم بالبلد من أبواب البلد على العدو من ورائه وتركب العساكر الإسلامية من خارج من سائر الجوانب ويحملوا حملة الرجل الواحد والسلطان يوالي هذه الأمور بنفسه ويكافحها بذاته لا يتخلف عن مقام من هذه المقامات وهو من شدة حرصه ووفور همته كالوالدة الثكلى، ولقد أخبرني بعض أطبائه أنه بقي من يوم الجمعة إلى يوم الأحد لم يتناول من الغذاء إلا شيئاً يسيراً لفرط اهتمامه وفعلوا ما كان عزم عليه واشتدت منعة العدو وحمى نفسه في خيامه ولم تزل سوق الحرب قائمة تباع فيها النفوس بالنفائس، وتمطر سماء حربها الرؤوس من كل رئيس ومترائس حتى كان يوم الجمعة ثامن شعبان..ذكر تأخر الناس إلى تل العياضية: ولما كان الثامن عزم العدو على الخروج بجموعهم فخرج راجلهم وفارسهم وامتدوا على التلول وساروا الهوينا غير مفرطين في أنفسهم ولا خارجين من راجلهم حيث كانت الرجالة حولهم كالسور المبني يتلو بعضه بعضاً حتى قاربوا خيام اليزك ولما رأى المسلمون ذلك وإقدام العدو عليهم شدوا وتنازعت الشجعان، وتنازلت الكماة إلى الأقران، وصاح السلطان بالعساكر الإسلامية يا للإسلام فركب الناس بأجمعهم ووافق فارسهم راجلهم وشابهم وشيخهم وحملوا حملة الرجل الواحد على العدو المخذول فعاد ناكصاً على عقبيه والسيف يعمل فيهم والسالم منهم جريح. والعاطب طريح مشتدون هزيمة يعبر جريحهم بقتيلهم ولا تلوي الجماعة منهم على قتيلهم حتى لقي الخيام من سلم منهم وانكفوا عن القتال أياماً وكان رأيهم أن يحفظوا نفوسهم، ويحرسوا رؤوسهم، واستقر فتح طريق عكا والمسلمون يترددون إليها وكنت ممن دخل ورقي على السور ورمى العدو بما يسر الله تعالى من فوق السور ودام القتال بين الفئتين متصلاً الليل والنهار حتى كان الحادي عشر من شعبان ورأى السلطان توسيع الدائرة عليهم لعلهم يخرجون إلى مصارعهم فنقل الثقل إلى تل العياضية وهو تل قبالة تل المصليين مشرف على عكا وخيام العدو، وفي هذه المنزلة توفي حسام الدين طمان وكان من الشجعان ودفن في سفح هذا التل وصليت عليه مع جماعة من الفقهاء ليلة نصف شعبان وقد مضى من الليل هزيع رحمه الله..ذكر وقعة جرت للعرب مع العدو: وكان سبب ذلك أنه بلغنا أن جمعاً من العدو يخرجون للاحتشاش من طرف النهر مما ينبت عليه فأكمن السلطان لهم جماعة من العرب وقصد العرب لخفتهم على خيلهم وأمنه عليهم فخرجوا ولم يشعروا بهم فهجموا عليهم وقتلوا منهم خلقاً عظيماً وأسروا جماعة وأحضروا رؤوساً عديدة بين يديه فخلع عليهم وأحسن إليهم وكان ذلك في السادس عشر، وفي عشية ذلك اليوم وقع بين العدو وبين أهل البلد حرب عظيم قتل فيه جمع عظيم من الطائفتين فطال الأمر بين الفئتين وما يخلوا يوماً من قتل وجرح وسبي ونهب وأنس البعض بالبعض بحيث أن الطائفتين كانا يتحدثان ويتركان القتال وربما غنى البعض ورقص البعض لطول المعاشرة ثم يرجعون إلى القتال بعد ساعة، وكان الرجال يوماً من الطائفتين قد سئموا من القتال فقالوا إلى كم نقاتل الكبار وليس للصغار حظ نريد أن يتصارع صبيان منا ومنكم فأخرج صبيّان من البلد إلى صبيين من الإفرنج واشتد الحرب بينهم فوثب أحد الصبيين المسلمين إلى أحد الكافرين فاختطفه وضرب به الأرض وقبضه أسيراً فاشتراه بعض الإفرنج بدينارين وقالوا هو أسيرك حقاً فخذ الدينارين وأطلقه. وهذه نادرة غريبة ووصل للفرنج مركب فيه خيل فهرب منها فرس ووقع في البحر وما زال يسبح وهم حوله يردونه حتى دخل ميناء عكا وأخذه المسلمون..ذكر المصاف الأعظم على عكا: وذلك أنه لما كان يوم الأربعاء الحادي والعشرون تحركت عساكر الإفرنج حركة لم تكن لهم بمثلها عادة فارسهم وراجلهم وكبيرهم وصغيرهم فاصطفوا خارج خيمهم قلباً وميمنة وميسرة وفي القلب الملك وبين يديه الإنجيل محمولاً مستوراً بثوب أطلس مغطى يمسكه أربعة أنفس بأربعة أطراف وهم يسيرون بين يدي الملك وامتدت الميمنة في مقابلة الميسرة التي لعسكر الإسلام من أولها إلى آخرها وكذلك ميسرة العدو في مقابلة ميمنتنا إلى آخرها وملكوا رؤوس التلال وكان طرف ميمنتهم إلى النهر وطرف ميسرتهم إلى البحر. وأما العسكر الإسلامي المنصور فإن السلطان أمر الجاويش أن نادى في الناس يا للإسلام وعساكر الموحدين فركب الناس وقد باعوا أنفسهم بالجنة ووقفوا بين أيدي خيامهم وامتدت الميمنة إلى البحر والميسرة إلى النهر كذلك أيضاً وكان رحمه الله قد أنزل الناس في الخيم ميمنة وميسرة وقلباً تعبية الحرب حتى إذا وقعت صيحة لا يحتاجون إلى تجديد ترتيب وكان هو في القلب وفي ميمنة القلب ولده الملك الأفضل ثم عسكر المواصلة يقدمهم ظهر الدين بن البلنكري ثم عسكر ديار بكر في خدمة قطب الدين بن نور الدين صاحب الحصن ثم حسام الدين بن لاجين صاحب نابلس ثم الطواشي قايماز النجمي وجموع عظيمة متصلين بطرف الميمنة وكان في طرفها الملك المظفر تقي الدين بجحفله وعسكره وهو مطل على البحر، وأما أوائل الميسرة فكان مما يلي القلب سيف الدين علي المشطوب وعلي بن أحمد من كبار ملوك الأكراد ومقدميهم والأمير علي وجماعة المهرانية والهكارية ومجاهد الدين برتقش مقدم عسكر سنجار وجماعة من المماليك ثم مظفر الدين بن زين الدين بجحفله وعسكره وأواخر الميسرة كبار المماليك الأسدية كسيف الدين يازكج ورسلان بغا وجماعة الأسدية الذين يضرب بهم المثل ومقدم القلب الفقيه عيسى وجمعه، هذا والسلطان يطوف على الأطلاب بنفسه يحثهم على القتال، ويدعوهم إلى النزال، ويرغبهم في نصر دين الله ولم يزل القوم يتقدمون، والمسلمون يقدمون حتى علا النهار ومضى فيه مقدار أربع ساعات وعند ذلك تحركت ميسرة العدو على ميمنة المسلمين فأخرج لهم الملك المظفر الجاليش وجرى بينهم قلبات كثيرة وتكاثروا على الملك المظفر وكان في طرف الميمنة على البحر فتراجع عنهم شيئاً إطماعاً لهم لعلهم يبعدون عن أصحابهم فينال منهم غرضاً فلما رأى السلطان ذلك ظن به ضعفاً وأمدّ بأطلاب عدة من القلب حتى قوي جانبه وتراجعت ميسرة العدو واجتمعت على تل مشرف على البحر ولما رأى الذين في مقابلة القلب ضعف القلب ومن خرج منه من الأطلاب داخلهم الطمع وتحركوا نحو ميمنة القلب وحملوا حملة الرجل الواحد راجلهم وفارسهم ولقد رأيت الرجالة تسير سير الخيالة وهم يسبقون حيناً وجاءت الحملة على الديار البكرية كما شاء الله تعالى وكان بهم غرة عن الحرب فتحركوا بين العدو وانكسروا كسرة عظيمة وسرى الأمر حتى انكسر معظم الميمنة واتبع العدو المنهزمين إلى العياضية فإنهم استداروا حول التل وصعد طائفة من العدو إلى خيمة السلطان فقتلوا طشت دار كان هناك، وفي ذلك اليوم استشهد إسماعيل المكبس وابن رواحة رحمهما الله، وأما الميسرة فإنها ثبتت لأن الحملة لم تصادفها وأما السلطان فأخذ يطوف على الأطلاب فينهضهم ويعدهم الوعود الجميلة ويحثهم على الجهاد وينادي فيهم يا للإسلام ولم يبق معه إلا خمسة أنفس وهو يطوف على الأطلاب ويخرق الصفوف ويأوي إلى تحت التل الذي كان عليه الخيام، وأما المنهزمون من العسكر فإنهم بلغتهم هزيمتهم إلى الفخوانة قاطع جسر طبرية وأم منهم قوم محروسة دمشق فأما المتبعون لهم فإنهم اتبعوهم إلى العياضية فلما رأوهم قد صعدوا إلى الجبل رجعوا عنهم وجاءوا عائدين إلى عسكرهم فلقيهم جماعة من الغلمان والخزيندية والساسة منهزمين على بغال الحمل فقتلوا منهم جماعة ثم جاءوا على رأس السوق فقتلوا جماعة وقتل منهم جماعة فإن السوق كان عظيماً ولهم سلاح، وأما الذين صعدوا إلى الخيام السلطانية فإنهم لم يلتمسوا فيها شيئاً أصلاً سوى أنهم قتلوا من ذكرنا وهم ثلاثة نفر رأوا ميسرة الإسلام ثابتة فعلموا أن الكسرة لا تتم فعادوا منحدرين من التل يطلبون عسكرهم، وأما السلطان فإن كان واقفاً تحت التل ومعه نفر يسير وهو يجمع الناس ليعودوا إلى المحلة على العدو فلما رأوا الإفرنج نازلين من التل أرادوا لقاءهم فأمرهم بالصبر إلى أن ولوا ظهورهم واشتدوا يطلبون أصحابهم فصاح في الناس فحملوا عليهم فطرحوا منهم جماعة فاشتد الطمع فيهم وتكاثر الناس وراءهم حتى لقوا أصحابهم والطرد وراءهم فلما رأوهم منهزمين والمسلمون وراءهم في عدد كثير ظنوا أن من حمل منهم قد قتل وإنهم إنما نجا منهم هذا النفر فقط وأن الهزيمة قد عادت عليهم فاشتدوا في الهرب والهزيمة وتحركت الميسرة عليهم وعاد الملك المظفر بجمعه من الميمنة وتجمعت الرجال وتداعت وتراجع الناس من كل جانب وكذب الله الشيطان ونصر الإيمان وظل الناس في قتل وطرح وضرب وجرح إلى أن اتصل المنهزمون السالمون إلى عسكرهم فهجم عليهم في الخيام فخرج منهم أطلاب كانوا أعدوها خشية من مثل هذا الأمر مستريحة فردوا المسلمين وكان التعب قد أخذ من الناس والعرق قد ألجمهم فرجع الناس عنهم بعد صلاة العصر يخوضون في القتلى ودمائهم إلى خيامهم فرحين مسرورين وجلسوا في خيمته يتداركون من فقد الغلمان وكان مقدار من فقد من الغلمان المجهولين مائة وخمسين نفراً ومن المعروفين استشهد ظهر الدين أخو الفقيه عيسى ولقد رأيته وهو جالس يضحك والناس يعزونه وهو ينكر عليهم ويقول هذا يوم الهناء لا يوم العزاء وكان هو قد وقع عن فرسه وركبه فرأيته وقتل عليه جماعة من أقاربه وقتل في ذلك اليوم الأمير مجلئ هذا الذي قتل من المسلمين وأما من العدو المخذول فحزر قتلاهم بسبعة آلاف نفر ورأيتهم وقد حملوهم إلى شاطئ النهر ليلقوا فيه فحزرتهم بدون سبعة آلاف، ولما تم على المسلمين من الهزيمة ما تم ورأى الغلمان خلو الخيام عمن يعترض عليهم فإن العسكر انقسم إلى قسمين منهزمين ومقاتلين فلم يبق في الخيام أحد وراءنا فظنوا أن الكسرة تتم وأن العدو ينهب جميع ما في الخيام فوضعوا أيديهم في الخيام ونهبوا جميع ما كان فيها وذهب من الناس أموال عظيمة وكان ذلك أعظم من الكسرة وقعاً. ولما عاد السلطان إلى الخيم ورأى ما قد تم على الناس من نهب الأموال والهزيمة سارع إلى الكتب والرسل في رد المنهزمين وتتبع من شذ من العسكر والرسل تتابع في هذا المعنى حتى بلغت عقبة فيتق وأخذوهم بالكرة إلى عسكر المسلمين فعادوا وأمر بجمع الأقمشة من أكف الغلمان إلى خيمته جلالات الخيل والمخالي بين يديه في خيمته وهو جالس ونحن حوله وهو يتقدم إلى كل من عرف شيئاً وحلف عليه يسلم إليه وهو يلقى هذه الأحوال بقلب صلب. وصدر رحب. ووجه منبسط ورأى مستقيم غير مختبط. واحتساب لله تعالى وقوة عزم في نصرة دين الله، وأما العدو المخذول فإنه عاد إلى خيمة وقد قتل شجعانهم وطرحت مقدموهم وفقدت ملوكهم فأمر السلطان أن خرج من عكا عجل يسحبون عليه القتلى منهم إلى طرف النهر ليلقوا فيه، ولقد حكى لي بعض من ولي أمر العجل أنه أخذ خيطاً وكان كلما أخذ قتيلاً عقد عقدة فبلغ عدد قتلى الميسرة أربعة آلاف ومائة وكسور وبقي قتلى الميمنة وقتلى القلب لم يعدهم فإنه ولي أمرهم غيره وبقي من العدو بعد ذلك من حمى نفسه وأقاموا في مخيمهم لم يكترثوا بجحافل المسلمين وعساكرهم وتشتت من عساكر المسلمين خلق كثير بسبب الهزيمة فإنه ما رجع منها إلا رجل معروف يخاف على نفسه والباقون وهربوا في حال سبيلهم وأخذ السلطان في جمع الأموال المنهوبة وإعادتها إلى أصحابها وأقام المناداة في العساكر وقرن النداء بالوعيد والتهديد وهو يتولى تفرقتها بين يديه واجتمع من الأقمشة عدد كثير في خدمته حتى أن الجالس في أحد الطرفين لا يرى الجالس في الطرف الآخر وأقام من ينادي على من ضاع منه شيء فحضر الخلق وسار من عرف شيئاً وأعطى علامته حلف وأخذه من الحبل والمخازة إلى الهميان والجوهر ولقي من ذلك مشقة عظيمة ولا يرى ذلك إلا نعمة من الله تعالى يشكر عليها. ويسابق بيد القبول إليها. ولقد حضرت يوم تفرقت الأقمشة على أربابها فرأيت سوقاً للعدل قائمة لم ير في الدنيا أعظم منها وكان ذلك في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شعبان وعند انقضاء هذه الواقعة وسكون ثأرتها أمر السلطان بالثقل حتى تراجع إلى موضع يقال له الخروبة خشية على العسكر من روائح القتلى وآثار الوخم من الوقعة وهو موضع قريب من مكان الوقعة إلا أنه أبعد عنها من المكان الذي كان نازلاً فيه بقليل وضربت له خيمة عند الثقل وأمر اليزك أن يكون مقيماً في المكان الذي كان نازلاً فيه وذلك في التاسع والعشرين واستحضر الأمراء وأرباب المشورة في سلخ الشهر ثم أمرهم بالإصغاء إلى كلامه وكنت من جملة الحاضرين ثم قال بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله. اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد نزل في بلدنا وقد وطء أرض الإسلام. وقد لاحت لوائح النصر عليه وإن شاء الله تعالى وقد بقي في هذا الجمع اليسير ولا بد من الاهتمام بقلعه والله قد أوجب علينا ذلك وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل وهو واصل وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن يفتح البحر جاءه مدد عظيم والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم فلينجزنا كل منكم ما عنده في ذلك، وكان ذلك في ثالث عشر تشرين من الشهور الشمسية وامتخضت الآراء وجرى تجاذب في أطراف الكلام وانفصلت آراؤهم على أن المصلحة تأخير العسكر إلى الخروبة وأن يبقى العسكر أياماً حتى يستجم من حمل السلاح وترجع النفوس إليهم فقد أخذ التعب منهم واستولى على نفوسهم الضجر وتكليفهم أمراً على خلاف ما تحمله القوي لا تؤمن غائلته والناس لهم خمسون يوماً تحت السلاح وفوق الخيل والخيل قد ضجرت من عرك اللجم وسئمت نفوسها ذلك. وعند أخذ حظ من الراحة ترجع نفوسها إليها ويصل الملك العادل ويشاركنا في الرأي والعمل وسنعيد من شذ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا في مقابلة الرجالة وكان بالسلطان التياث مزاجي قد عراه من كثرة ما حمل على قلبه وما عاناه من التعب يحمل السلاح والفكر في تلك الأيام فوقع ما قالوه ورأوه مصلحة. وكان انتقال العسكر إلى الثقل ثالث رمضان وانتقال السلطان تلك الليلة وأقام يصلح مزاجه ويجمع العساكر وينتظر أخاه إلى عاشر رمضان.ين واستحضر الأمراء وأرباب المشورة في سلخ الشهر ثم أمرهم بالإصغاء إلى كلامه وكنت من جملة الحاضرين ثم قال بسم الله والحمد لله والصلاة على رسول الله. اعلموا أن هذا عدو الله وعدونا قد نزل في بلدنا وقد وطء أرض الإسلام. وقد لاحت لوائح النصر عليه وإن شاء الله تعالى وقد بقي في هذا الجمع اليسير ولا بد من الاهتمام بقلعه والله قد أوجب علينا ذلك وأنتم تعلمون أن هذه عساكرنا ليس وراءنا نجدة ننتظرها سوى الملك العادل وهو واصل وهذا العدو إن بقي وطال أمره إلى أن يفتح البحر جاءه مدد عظيم والرأي كل الرأي عندي مناجزتهم فلينجزنا كل منكم ما عنده في ذلك، وكان ذلك في ثالث عشر تشرين من الشهور الشمسية وامتخضت الآراء وجرى تجاذب في أطراف الكلام وانفصلت آراؤهم على أن المصلحة تأخير العسكر إلى الخروبة وأن يبقى العسكر أياماً حتى يستجم من حمل السلاح وترجع النفوس إليهم فقد أخذ التعب منهم واستولى على نفوسهم الضجر وتكليفهم أمراً على خلاف ما تحمله القوي لا تؤمن غائلته والناس لهم خمسون يوماً تحت السلاح وفوق الخيل والخيل قد ضجرت من عرك اللجم وسئمت نفوسها ذلك. وعند أخذ حظ من الراحة ترجع نفوسها إليها ويصل الملك العادل ويشاركنا في الرأي والعمل وسنعيد من شذ من العساكر ونجمع الرجالة ليقفوا في مقابلة الرجالة وكان بالسلطان التياث مزاجي قد عراه من كثرة ما حمل على قلبه وما عاناه من التعب يحمل السلاح والفكر في تلك الأيام فوقع ما قالوه ورأوه مصلحة. وكان انتقال العسكر إلى الثقل ثالث رمضان وانتقال السلطان تلك الليلة وأقام يصلح مزاجه ويجمع العساكر وينتظر أخاه إلى عاشر رمضان.
|