الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
94 - أ - يشترط الحنفيّة لنفاذ الحوالة أن يكون المحيل بالغاً، لأنّ في الحوالة معنى المعاوضة، ومعاوضات الصّبيّ المميّز لا تنفذ إلاّ بإجازة وليّه. فحوالته منعقدة موقوفة على الإجازة. والبلوغ شرط صحّة عند الجمهور. فإذا كان المحيل مميّزًا غير بالغ ففيه الخلاف المشهور بين الفقهاء في تصرّفات الصّغير المميّز إذا باشرها بنفسه: أتكون باطلةً، أم موقوفةً على إجازة وليّه، إن رآها وفق مصلحته؟ وتفصيل ذلك في مصطلح (أهليّة و صغر). ب - ويشترط الحنفيّة لنفاذ الحوالة أن يكون المحال بالغاً، لما قلناه في المحيل، ولذا ينعقد احتيال الصّبيّ المميّز، ولكنّه لا ينفذ إلاّ بإجازة وليّه، وهذه الإجازة مشروطة بأن يكون المحال عليه أملأ من المحيل. وهذه الشّريطة يوافق عليها المالكيّة والشّافعيّة، ويخالف فيها الحنابلة، لأنّهم لا يشترطون رضا المحال، إلاّ على احتمال ضعيف للحنابلة. ج - أمّا شريطة بلوغ المحال عليه، فسبق بحثها كشريطة انعقاد أثناء بحث المحال عليه وشرائطه (ر: ف / 62).
95 - يشترط لنفاذ الحوالة أن تكون للمحال على المال المحال به ولاية. فالفضوليّ لا يكون محالاً إلاّ بإجازة من له الولاية، أمّا الوكيل فإن كان وكيلاً بالقبض فليس له أن يحتال أصلاً، لأنّ المقصود من وكالته الاستيفاء لا الإبراء، وإن كان وكيلاً في العقد ففي قبوله حوالة الثّمن خلاف مشهور: جوّزها منه الطّرفان أبو حنيفة ومحمّد، على الأملأ والأفلس مطلقاً - ويضمن للموكّل لأنّ الحوالة إبراء مؤقّت فتعتبر بالمطلق - ومنعها أبو يوسف. وقد أجرى الخلاف في البدائع بين أبي حنيفة مجوّزاً، والصّاحبين مانعين. واستدلّ لهما: بأنّ هذه الحوالة هي تصرّف في ملك الموكّل من غير إذنه، فلا ينفذ عليه كتصرّف الأجنبيّ. واستدلّ لأبي حنيفة: بأنّ الوكيل بقبوله الحوالة إنّما تصرّف بالإبراء في حقّ نفسه " وهو قبض الثّمن " بمقتضى عقد الوكالة لأنّ قبض الثّمن من حقوق العبد الّتي تعود للوكيل بالبيع، فإبراؤه المشتري عن الثّمن أو قبوله الحوالة به إسقاط لحقّ نفسه وهو القبض فينفذ عليه، لأنّ الحوالة كالإبراء تمنع مطالبة المحيل، ويسقط بذلك الثّمن من ذمّة المشتري تبعاً لسقوط حقّ القبض، ولكن لا يسقط حقّ الموكّل في الثّمن الّذي هو عوض ملكه. وإنّما يسقط الثّمن من ذمّة المشتري تبعاً، لأنّه لو لم يسقط مع سقوط حقّ الوكيل في قبضه لبقي دينًا غير قابل للقبض، وهذا لا نظير له في الشّرع، كما أنّه غير مفيد. فلذا يسقط الثّمن من ذمّة المشتري تبعاً لسقوط حقّ الوكيل في قبضه، ولكن يضمنه الوكيل للبائع الموكّل، لأنّ الوكيل بتصرّفه هذا قد تجاوز إلى حقّ غيره وهو الثّمن نفسه حيث أتلفه على صاحبه بالإبراء أو قبول الحوالة به. وقد لخصّه في مجمع الأنهر بأنّ حقوق العقد للعاقد، والحوالة من هذه الحقوق. واحتيال الوكيل في البيع، بثمن المبيع بالصّورة المشروحة لم نجد حكمه منصوصاً عند غير الحنفيّة. أمّا النّائب الشّرعيّ عن الصّغير، وليّاً كان كالأب أو وصيّاً، فلا يملك عند الحنفيّة حقّ الاحتيال بمال هذا الصّغير على ما قرّره السّرخسيّ في المبسوط بإطلاقه، على خلاف عامّة الكتب. ونصّ عبارته: لو احتال بمال ابنه الصّغير، أو اليتيم الّذي تحت وصايته، لم يجز، لأنّ الحوالة إبراء الأصيل، وهو لا يملكه في مال القاصرين. 96 - وأمّا احتيال وليّ القاصر، كأبيه أو وصيّه بدينه، فلم نر في المذاهب الأخرى إطلاق عدم جوازه، كما فعل السّرخسيّ من الحنفيّة. بل في كلام بعضهم - كما هو مقتضى إطلاق حديث الحوالة - التّصريح بصحّتها بشريطة واحدة: أن تقتضيها مصلحة القاصر نفسه - أخذًا من نصّ التّنزيل الحكيم: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} - دون تقيّد بأيّ قيد آخر. ولذا أبطلوا احتياله على مفلس سواء أعلم إفلاسه أم جهل، وكذا احتياله بدين موثّق عليه برهن أو ضمان، لما في انفكاك الوثيقة من الضّرر البيّن بالقاصر. وقد سئل السّيوطيّ عن رجل له على رجل دين، فمات الدّائن وله ورثة فأخذ الأوصياء من المدين بعض الدّين، وأحالهم على آخر بالباقي فقبلوا الحوالة وضمنها لهم آخر، فمات المحال عليه، فهل لهم الرّجوع على المحيل أم لا فأجاب: يطالبون الضّامن وتركة المحال عليه، فإن تبيّن إفلاسهما فقد بان فساد الحوالة، لأنّها لم تقع على وفق المصلحة للأيتام، فيرجعون على المحيل. ومن أمثلة المصلحة أن يكون المحيل بمال اليتيم فقيراً أو مماطلاً، أو مخوف الامتناع بسطوة أو هرب، أو سيّئ القضاء على أيّة صورة، والمحال عليه بعكس ذلك كلّه فتصحّ الحوالة حينئذ، لأنّها أصلح للقاصر. 97 - وكون احتيال الفضوليّ موقوفاً على إجازة من له الولاية على دين الحوالة، هو اتّجاه فقهيّ يوجد أيضًا عند كثيرين غير الحنفيّة، كالمالكيّة، والشّافعيّ في القديم، وأحمد في رواية. ولكن الّذي عند الشّافعيّة في الجديد، وهو المعتمد عند الحنابلة أنّ حوالة الفضوليّ كسائر تصرّفاته باطلة من أصلها، فلا تعود بالإجازة صحيحةً. وهذه قاعدة عامّة، أخذت من حديث ثابت في بياعات الفضوليّ عند أبي داود والتّرمذيّ " الّذي اعتبره حسناً " ونصّه: «لا بيع إلاّ فيما تملك». وطردوا هذا فيما عدا البيع فأصبح قاعدةً. ومثله حديث حكيم بن حزام «أنّه صلى الله عليه وسلم قال: لا تبع ما ليس عندك».
98 - أ - قبول المحال - إذا لم يكن هو أحد الطّرفين المنشئين للعقد - ليس شريطة انعقاد إلاّ عند أبي حنيفة ومحمّد. أمّا أبو يوسف فيكتفي برضا المحال، ولو خارج مجلس العقد، على أن يكون إذن شريطة نفاذ. وهذا هو الّذي أخذت به مجلّة الأحكام العدليّة في المادّة (683). ب - ورضا المحال عليه كذلك - ولو خارج مجلس العقد - شريطة نفاذ باتّفاق أئمّة المذهب الحنفيّ الثّلاثة. هذا، وقد سبق الكلام بالتّفصيل على فقه هذه المسألة والخلاف الاجتهاديّ فيها بين المذاهب بما فيه الكفاية.
99 - إذا تمّت الحوالة بأركانها وشرائطها ترتّبت عليها آثارها الّتي من أجلها شرعت، واعترتها على الجملة أحكام عدّة وهي: أ - لزوم الحوالة: 100 - الحوالة عقد لازم دون خلاف، ولكن قبولها للخيارات محلّ اختلاف بين الفقهاء، فالشّافعيّة والحنابلة يقرّون أنّها لا تقبل الخيارات إلاّ أنّ من أهل المذهبين من أجاز فيها خيار المجلس - وفي ذلك يقول صاحب " المهذّب " من الشّافعيّة: " لا يجوز خيار الشّرط فيه - أي عقد الحوالة " - لأنّه لم يبن على المغابنة، فلا يثبت فيه خيار الشّرط. وفي خيار المجلس وجهان: أحدهما يثبت، لأنّه بيع، فيثبت فيه خيار المجلس كالصّلح. الثّاني: (وهو الأصحّ) لا يثبت، لأنّه يجري مجرى الإبراء، ولهذا لا يجوز بلفظ البيع، فلم يثبت فيه خيار المجلس فهو جازم - كما يظهر من كلامه - بعدم قبول الحوالة خيار الشّرط عند الشّافعيّة. والمالكيّة يشترطون للزوم الحوالة أن يكون الدّين المحال عليه عن عوض ماليّ، فإذا اختلّت الشّريطة لم تكن الحوالة لازمةً، وعنهم في بعض تفسيرات المذهب، أنّ يسار المحال عليه كذلك من شرائط لزوم العقد. 101 - وصرّح الحنفيّة بأنّ الحوالة من العقود اللّازمة الّتي لا يمكن فسخها أو إبطالها من جانب واحد ما لم يشرط له الخيار. ومدّة خيار الشّرط ثلاثة أيّام عند أبي حنيفة وأيّة مدّة تعلم نهايتها عند الصّاحبين. وقد صرّحوا بجواز اشتراط الخيار لمن يجب رضاه في الحوالة، وهو على الصّحيح المحال والمحال عليه فحسب، كما يتبادر من كلام بعضهم. ثمّ قال الحنفيّة: إذا شرط الخيار للمحال أو المحال عليه أو كليهما، فبدا لهذا أو ذاك في مدّة الخيار أن يعدل عن العقد فذلك له، لأنّ أحد الشّخصين أو كليهما قد يجهل صاحبه بعض جهالة، ثمّ بعد تقصّي أحواله يبدو له أنّ هذه الحوالة ليست في مصلحته فيراجع نفسه قبل فوات الأوان. وقد لا يجهل، ولكن تتغيّر حتّى في هذه الفترة القصيرة، ظروف المحال عليه إلى أسوأ، أو المحيل إلى أفضل، أو يقع التّغيّران كلاهما، فيؤثر المحال أن يعود من حيث بدأ. أمّا المحيل فشرط الخيار له أصالةً بيّن جدّاً، على القول بأنّه طرف في العقد، فقد يأنف بعد شيء من الرّويّة - أن يتحمّل عنه فلان دينه، وقد يكون ذا صلة خاصّة بالمحال عليه، ويعلم أنّ فيه ضعفاً، وأنّ مكان المحال سيثقل عليه فتأخذه به رأفة، ويعيد الدّين إلى نفسه كرّةً أخرى، ثقةً بأنّه أقدر على معالجة صاحبه. وانفساخ الحوالة عند الحنفيّة لأمر عارض كالتّوى وموت المحيل في الحوالة المقيّدة أو مطلقاً - على الخلاف عندهم - لم يمنع من الحكم عليها بأنّها عقد لازم (ر: ف / 138، / 141). 102 - وقد أفاد ابن نجيم في البحر نقلاً عن الخلاصة والبزّازيّة أنّ الحوالة على ثلاثة أوجه: لازمة وجائزة وفاسدة. فاللّازمة: أن يحيل المدين دائنه على آخر ويقبل الحوالة، سواء أكانت مقيّدةً أم مطلقةً. والجائزة: أن يقيّدها بأن يعطي المحال عليه الحوالة من ثمن دار نفسه، فلا يجبر المحال عليه على البيع، وهو بمنزلة ما لو قبل الحوالة على أن يعطي عند الحصاد، فإنّه لا يجبر على أداء المال قبل الأجل. والفاسدة: أن يقيّد فيها المحال عليه بالأداء من ثمن دار المحيل، لأنّها حوالة بما لا يقدر على الوفاء به، وهو بيع دار غيره، فإنّ الحوالة بهذا الشّرط لا تكون توكيلاً ببيع دار المحيل. أي لكي يكون بحكم الوكالة قادراً على الوفاء. ب - الشّروط اللّاحقة: 103 - اختلف الفقهاء في الشّروط الواقعة بعد العقد - أيّاً كان هذا العقد -هل تلحقه أم لا؟ فشرط الشّافعيّة والحنابلة للحاق الشّروط الّتي لم تشرط في صلب العقد وقوعها قبل لزوم العقد. وللحنفيّة في ذلك قولان: قول باللّحاق، ويعزى إلى أبي حنيفة، وقول بعدمه ويعزى إلى الصّاحبين، وعلى القول باللّحاق: 1 - لا فرق بين أن يقع الشّرط في مجلس العقد، وأن يقع خارجه، خلافاً لمن شرط اتّحاد المجلس. 2 - إذا كان الشّرط فاسداً يفسد العقد لحاقه إلاّ أنّه إذا خرج مخرج الوعد " ولنسمّه شرطاً وعديّاً " لا يفسده، بل لا بأس حينئذ بأن يكون في صلب العقد. ثمّ هل يكون هذا الشّرط الوعديّ ملزمًا أو غير ملزم؟ في ذلك قولان مصحّحان في المذهب، بعد أن يكون الشّرط الوعديّ في ذاته ليس من المحظورات الشّرعيّة. فالقائل بعدم اللّزوم جار على المشهور من أنّ الوعد لا يجب الوفاء به قضاءً. والقائل باللّزوم ملحظه أنّ المواعيد قد تلزم، فتجعل هنا لازمةً لحاجة النّاس إلى لزومها. هذا تقرير القاعدة في ذاتها عند الحنفيّة على صعيد العقد بوجه عامّ أيّاً كان نوعه. فإذا أريد تطبيقها هنا على عقد الحوالة - بوجه خاصّ يجب أن يفرّق عند الحنفيّة - كما هو واضح بين نوعين من الشّروط، ونوعين من العبارات الّتي تصاغ بها.
104 - أ - كما لو اشترط أحد الأطراف شرطاً ملحقاً بعد العقد أن تكون الحوالة عقداً غير لازم: بمعنى أن يكون لمن شاء من أطرافها، أو لطرف معيّن أن ينقضها متى شاء، دون تقيّد بمدّة معيّنة. ب - أو يشترط المحيل أنّ الحوالة ماضيةً قطعيّةً قطعت كلّ علاقة بينه وبين المحال عليه لا تتأثّر بموت محيل، ولا بموت محال عليه أو إفلاسه، ولا رجوع عليه للمحال سواء وفّيت الحوالة أم لا. ج - أو يشترط ما يشبه المقامرة من نوع آخر، كما لو شرط في الحوالة المقيّدة أن لا رجوع عليه فيها، ولو تلف المال الّذي قيّدت به أو استحقّ. وواضح أنّ هذا النّوع من الشّروط مناف لمقتضى العقد في قواعد الحنفيّة فهي شروط فاسدة في نفسها. ثمّ إن قلنا بلحاقها بعقد الحوالة إذا شرطت بعد العقد فإنّها تفسده أيضاً، وإن لم نقل يلحقاها اقتصر فسادها عليها بذواتها، ولم يتعدّ إلى العقد نفسه. على أنّه حين يصاغ الشّرط من هذه الشّروط وأمثالها بصيغة الوعد " كأن يقول المحال بعد العقد: إنّي ملتزم بهذه الحوالة أبدًا ولن أرجع عليك بحال من الأحوال، أو يقول المحيل: إنّنا ملتزمان بهذه الحوالة، ولكنّني سأذعن لإرادتك إن بدا لك أن تفسخها أنت " فالّذي يبدو أنّ هذا لا يغيّر شيئاً من مقتضى العقد. أمّا جعله أمراً جائزاً بطريق العدة، فهذا وما إليه ممّا يجيء فيه الخلاف في لزوم الوعد وعدم لزومه.
105 - أ - وذلك كاشتراط المحال أن يعطيه المحال عليه بالدّين رهناً أو أن يكون موسراً. ب - أو اشتراط المحال عليه أن يكون الدّين المحال على الأصيل مؤجّلاً عليه هو. ج - أو أن يشترط لأحد الأطراف الخيار ثلاثة أيّام، أو مدّةً ما معلومةً على ما سلف (ر: ف / 101). فإنّ هذه مصالح لا ريب فيها، وليس في شيء منها حظر شرعيّ - إذا كانت المعاملة في المثالين الأخيرين ليست من قبيل الصّرف - فهذا النّوع من الشّروط لو أنّ العاقد شرطها في أثناء العقد لصحّت وتمّ العقد على وفق أغراضه الصّحيحة تلك، إذ هي بين شرط ملائم لعقد الحوالة، أو مأذون فيه بترخيص الشّارع - وإن لم يكن من مقتضى العقد نفسه - فلو نسي اشتراط شيء منها في أثناء العقد فاتّفقا على إلحاقه جاز إلحاقاً، كما يجوز ابتداءً على أنّه قد يعتبر اشتراط يسار المحال عليه من مقتضيات العقد، بدليل الرّجوع على المحيل إذا توي الدّين. حتّى إنّه لو فاته اشتراط ذلك في العقد لم يكن من بأس في أن يتدارك، ولو بعد مدّة مديدة، وهم قد صرّحوا بمثل ذلك في خيار الشّرط المتعلّق بعقد البيع، ونصّ عبارتهم: " لو قال أحدهما بعد البيع، ولو بأيّام: جعلتك بالخيار ثلاثة أيّام صحّ إجماعاً "، ومجال التّيسير في الحوالة أوسع منه في البيع. ولا خفاء في هذا بناءً على قول اللّحاق بالعقد في الشّروط المتراخية عنه، أمّا على القول المقابل، فلا يستقيم. 105 م - أمّا الشّرط الفاسد أو الصّحيح في نفسه، من تلك الشّروط عند الجمهور ففيها التّفصيل التّالي: أ - إنّ اشتراط عدم الرّجوع على المحيل، إذا توي المال على المحال عليه، ليس مخالفاً لمقتضى العقد عند أحد من غير الحنفيّة، حتّى يكون فاسدًا، بل هو اشتراط مقتضى العقد وأحد لوازمه غير المنفكّة عند كثيرين، بحيث لو شرط خلافه في صلب العقد لخرج العقد عن أن يكون حوالةً حقيقيّةً أو لبطل، والبطلان حينئذ هو مختار الشّافعيّة. (ر: ف / 31 و / 156) وإن كان الّذي حكاه الباجيّ من المالكيّة عن سحنون صحّة الشّرط، ولعلّه أحد الأوجه الّتي أشار إليها الخطيب عند الشّافعيّة. ب - إذا شرط في الحوالة تقديم رهن بالدّين أو كفيل فقد اختلف الشّافعيّة في صحّة هذا الشّرط، وقد سبق ذلك (ر: ف / 54، / 55). ج - اشتراط يسار المحال عليه لا ينازع أحد أنّ هذا من مصالح العقد، ومع ذلك فهناك من يرى مانعاً من لزومه لو شرط، كالشّافعيّة في الأصحّ عندهم، ذلك أنّهم يقولون إنّ إعسار المحال عليه نقص كالعيب في المبيع - على أساس أنّ الحوالة عند الشّافعيّة من قبيل بيع الدّين - فلو لزم شرط انتفاء الإعسار بحيث إذا اختلّ كان الخيار المحال - في فسخ الحوالة والإبقاء عليها - لوجب أن يكون له الخيار بمجرّد وجود الإعسار عند العقد من غير شرط، على قاعدة خيار العيب، وليس الأمر كذلك. وهناك من يرى أنّه شرط لازم، ويثبت الخيار عند انتفاء الشّرط، وعلى هذا الحنابلة وأبو العبّاس بن سريج من الشّافعيّة وموافقوه، أمّا الإعسار فعيب، واشتراط انتفائه غير مجد على ما تبيّن. ولذا يقول ابن قدامة: قد يثبت بالشّرط ما لا يثبت بإطلاق العقد بدليل اشتراط في المبيع. ومن ثمّ لجأ السّيوطيّ، أو من نقل عنهم في الأشباه، إلى بناء القول بعدم لزوم شرط اليسار على أنّ الحوالة استيفاء والقول بلزومه على أنّها بيع. د - وأمّا شرط المحال عليه تأجيل الدّين بالنّسبة إليه بعد ما كان حالّاً على المحيل، فإنّ الشّافعيّة والحنابلة يمنعون تأجيل الحالّ، ويقولون: " الحالّ لا يتأجّل " أي لا يعتبر تأجيله ملزماً. ولكن المالكيّة يتوسّعون في قابليّة الدّين للتّأجيل ما لا يتوسّع غيرهم حتّى إنّهم ليجيزون تأجيل دين القرض، وينفّذون شرطه. (ر: ف / 24).
106 - لعقد الحوالة أثران رئيسيّان هما براءة ذمّة المحيل من الدّين الّذي أحال به، واشتغال ذمّة المحال عليه بالدّين، وفيما يلي بيان لهذين الأثرين وما يتبعهما بالنّسبة إلى: أ - أثر الحوالة في علاقة المحيل والمحال. ب - أثر الحوالة في علاقة المحال والمحال عليه. ج - أثر الحوالة في علاقة المحيل والمحال عليه.
ويظهر ذلك الأثر فيما يلي:
107 - اتّفق الفقهاء على أنّه متى صحّت الحوالة فقد فرغت ذمّة المحيل ممّا كان عليه لدائنه الّذي قبل الاحتيال به، وبالتّالي لا يكون لهذا الدّائن حقّ المطالبة. لكن الحنفيّة قيّدوا براءة ذمّة المحيل وسقوط حقّ المطالب بعدم التوى - على اختلاف في تفسير التوى - إلاّ في حالات استثنوها ونصّوا عليها.
108 - ويترتّب على كون الحوالة تنقل الدّين والمطالبة معًا النّتائج التّالية: أ - متى برئ المحيل وكان له كفيل، برئ كفيله تبعاً،إذ لا معنى لمطالبته بدين لا وجود له. ب - لو أحال الكفيل المكفول له على غير المدين المكفول (الأصل) برئ الكفيل المحيل والمدين الأصيل معاً، لأنّ الحوالة بإطلاقها تنصرف إلى الدّين، وهو على الأصل، فيبرأ الأصيل أوّلاً، ثمّ الكفيل المحيل تبعاً، هذا ما لم ينصّ في الحوالة على براءة الكفيل المحيل وحده فحسب، وإلاّ برئ هو وحده، قياساً على صلح الكفيل مع الطّالب في الموضعين، ثمّ إذا توي المال عاد الدّائن المحال على أيّهما شاء وفقاً للحكم العامّ في الحوالة عند الحنفيّة. وبراءة المكفول والكفيل معاً أصالةً وتبعاً إذا أحال أحدهما الدّائن لا ينازع فيها الشّافعيّة ولا الحنابلة. أمّا المالكيّة فيوافقون على براءتهما بإحالة الأصيل، لأنّ الكفيل تبع له، لكنّهم ينازعون في العكس: إذ لا يبرأ الأصيل عندهم بحالة الكفيل، وإنّما يبرأ الكفيل وحده لأنّ الأصل لا يتبع الفرع. وممّا يتّصل بهذه المسألة ما يقوله الحنفيّة: ج - إنّ الكفالة متى انعقدت بأمر المكفول عنه فإنّها توجب دينين: دينًا للطّالب على الكفيل، ودينًا للكفيل على المكفول عنه، إلاّ أنّ هذا الأخير مؤجّل إلى وقت الأداء. ومعنى هذا أنّه يتسنّى للكفيل أن يحيل المكفول له على الأصيل حوالة مقيّدة بدينه هذا عليه، فإذا قبل الأصيل والمكفول له برئ الكفيل، لكن براءة مؤقّتة بعدم التّوى - على قاعدة براءة المحيل - وهي من وقائع الفتوى، بخلاف ما إذا أحال المحال عليه الطّالب على المحيل، فإنّه يبرأ بهذه الحوالة براءةً مؤبّدةً لا رجوع بعدها عليه، وإن توي المال الّذي على الأصيل، لأنّه هو المحيل الأوّل فالقرار عليه. (ر: ف / 171). أمّا الشّافعيّة فعندهم أنّ الكفيل الضّامن، ولو بالأمر، لا يثبت له في ذمّة المضمون عنه شيء بمجرّد الضّمان، فلا مجال للقول بأنّه تصحّ حوالة الكفيل أو غير حوالته، ولذا يقول الخطيب في شرح المنهاج: لو أبرأ الضّامن الأصيل، أو صالحه، عمّا سيغرم في ماله، أو رهنه الأصيل شيئًا بما ضمنه، أو قام به كفيلًا لم يصحّ، لا يثبت له حقّ بمجرّد الضّمان. د - إنّ هبة الدّين، أو الإبراء منه، أو أخذ رهن به، كان قبل الحوالة حقّاً للدّائن تجاه المدين دون غيره، أمّا بعد الحوالة فبالعكس، إذ يصبح حقّاً للدّائن تجاه المحال عليه دون المحيل. هـ - لو مات المحيل حوالةً مطلقةً، لا يأخذ المحال الدّين من تركته، لأنّ الحوالة باقية ومقتضاها براءة ذمّته، ولكنّه يأخذ كفيلاً من ورثته أو الغرماء، لئلاّ يتوى حقّه.
109 - هذا الحكم انفرد به الحنفيّة لما هو مقرّر عندهم من أنّه إذا عجز المحال عن الوصول إلى حقّه من طريق المحال عليه، فإنّه يرجع على المحيل بدينه، كما كان أوّلاً. ولولا هذا الضّمان لما استقام ذلك، لكنّه ضمان باعتبار المال لا باعتبار الحال، ولو شرط ضمانه في الحال لصارت كفالةً.
110 - اتّفق الفقهاء على أنّ الحوالة تشغل ذمّة المحال عليه بحقّ أنشأته الحوالة للمحال، وإن اختلفوا في حقيقة هذا الاشتغال: هل هو انتفاء الدّين، أو المطالبة به، أو مجرّد اشتغال ذمّة جديدة دون انتقال " كما في الكفالة ". فالمهمّ أنّ الحوالة كما أحدثت براءةً في ذمّة المحيل على اختلاف في نوع هذه البراءة ودرجتها، قد أحدثت شغلًا في ذمّة المحال عليه. ويتفرّع عن هذا الشّغل ما يلي: أ - ثبوت ولاية للمحال في مطالبة المحال عليه: 111 - وهي مطالبة بدين ثابت في ذمّة المحال عليه - على المصحّح في مذهب الحنفيّة من أنّ الحوالة تنقل الدّين أيضًا، لا المطالبة وحدها - أو هي مطالبة بدين ثابت في ذمّة المحيل بناءً على أنّها وثيقة بالدّين ولا تنقل الدّين، سواء أنقلت المطالبة أم لا. وعلى كلّ حال فهذه الولاية ليست أثراً مباشراً لصحّة الحوالة بل بواسطة الأثر السّابق: أعني اشتغال ذمّة المحال عليه بحقّ المحال. " ومعلوم أنّه حين يكون له حقّ مطالبة المحيل أيضًا، بسبب اشتراط عدم براءته، تكون الحوالة قد تجاوزت نطاقها وصارت كفالةً ". ثمّ قد تسقط هذه الولاية قبل الإيفاء - إمّا باختيار المحال، وإمّا بغير اختياره. فمن الحالة الأولى - أن يبرّئ المحال المحال عليه إبراء إسقاط، أو إبراء استيفاء، وتعتبر هذه الأخيرة إقراراً بالوفاء. ومن الحالة الثّانية - أن يقدّم المحيل وفاء دينه، إذ المحال يجبر حينئذ على قبول هذا الوفاء. وأمّا إجبار المحال على قبول إيفاء دينه من المحيل، فلم نجد أحدًا عدا المالكيّة، يوافق عليه بصريح العبارة أو ما يشبه صريحها، إلاّ إذا كان بسؤال من المحال عليه، لأنّه حينئذ نائب عنه في إقباض الطّالب، أمّا المبادرة التّلقائيّة، فإنّ المحيل يكون بها متبرّعاً، حتّى إنّه لا يستحقّ الرّجوع على أحد - خلافاً للحنفيّة - فهي منه منّة، ولا يوجب أحد قبول المنن إذا استثنينا المالكيّة عند اللّجوء إلى القضاء: فهم عندئذ فقط يوافقون الحنفيّة على هذا الإجبار. ب - ثبوت حقّ للمحال في ملازمة المحال عليه: 112 - لا خلاف في هذا الحقّ نفسه، وإن كان قد يعرض الخلاف في بعض النّتائج المترتّبة عليه. فمن المقرّر - مثلاً - أنّه إذا كان بالدّين أكثر من ضامن، وأحيل عليهم جميعًا، فإنّ للمحال - كما نصّ عليه الشّافعيّة والحنابلة - أن يطالب كلّ واحد منهم: إن شاء بجميع الدّين، وإن شاء ببعض منه. وإذن يتوجّه السّؤال التّالي: إذا أحال الدّائن بدينه على اثنين كفلاه له معًا، كما لو قال أحدهما: ضمنت لك أنا، وهذا، ما لك على فلان، وقال الآخر: نعم. ففي المسألة وجهان: أحدهما: أنّه يطالب كلّاً منهما بجميع الدّين - ولنفرض أنّه ألف - قياساً على ما لو رهنا به بيتهما المشترك، فإنّ حصّة كلّ منهما تكون رهناً بجميع الألف. والثّاني: أنّه يطالب كلّاً منهما بخمسمائة لا غير، قياساً على ما لو اشتريا بيتاً بألف، فإنّ الثّمن يكون بينهما مناصفةً. ج - عدم جواز امتناع المحال عليه عن الدّفع: 113 - يلوم المحال عليه بالأداء إلى المحال بمقتضى عقد الحوالة، وليس له الامتناع سواء أوقع التزام الدّفع في الحوالة بلفظ الحوالة أم بما في معناها. ويرى الحنفيّة أنّه إذا تعلّل المحال عليه بعلّة توجب براءة المحيل، ليبرأ هو بذلك عن الدّفع، فإنّه يفرّق بين حالتين: الحالة الأولى: حالة ادّعائه أمراً مستنكراً، أو وقوفه موقف المتناقض. وفي هذه الحالة لا تسمع دعواه، مثال ذلك: أن يزعم أنّ دين الحوالة لا وجود له أصلاً على التّحقيق، لأنّه ثمن خمر باعها مسلم، أو لأنّه صداق امرأة نكاحها فاسد لكذا وكذا، فلا تسمع دعواه، وإن كان معه بيّنة لا تقبل، لأنّه أوّلاً يدّعي أمراً نكراً ليس بالظّاهر من شأن المسلمين، ولأنّه ثانياً متناقض مع نفسه: إذ قبوله الحوالة يكذّب دعواه. والحالة الثّانية: حالة عدم النّكارة والتّناقض كليهما. وفي هذه الحالة تسمع دعواه، وتقبل بيّنته، لأنّه يدّعي مشبّهاً، ويبرهن عليه، مثال ذلك، أن يدّعي أنّ دين الحوالة صداق امرأة كانت أبرأت منه زوجها المحيل، أو أنّ الزّوج قد نقدها إيّاه بعد، أو باعها به شيئاً وأقبضها. وهكذا إذا كان المحيل نفسه حاضراً، وادّعى مبرّئاً، ليبرأ هو أوّلاً، ثمّ يبرأ المحال عليه تبعاً، أعني أنّه يكون على النّحوين الآنفين: إمّا مرفوض الدّعوى، أو مقبول البيّنة. د - الضّمانات والدّفوع: 114 - الحقّ الّذي اشتغلت به ذمّة المحال عليه هو الدّين الّذي كان في ذمّة المحيل وما يتبعه من حقوق، لكن الفقهاء اختلفوا: هل ينتقل الدّين بضماناته الّتي كانت له في ذمّة المحيل، أم لا؟ 115 - ذهب جمهور الفقهاء إلى بقاء الضّمانات الّتي هي لمصلحة المدين - كالأجل، وأسباب سقوط الدّين المحال به أصالةً أو إيفاءً - وإلى سقوط الضّمانات الّتي هي لمصلحة الدّائن كالرّهن، والكفالة، بمجرّد الحوالة بالدّين الموثّق عليه، لأنّها كالقبض، ويستدلّون على أنّها كالقبض، بسقوط حبس البائع المبيع إذا أحاله المشتري بالثّمن، وسقوط حبس الزّوجة نفسها إذا أحالها الزّوج بالصّداق. بل نصّ الشّافعيّة على أنّه إذا شرط في عقد الحوالة بقاء الرّهن بطلت، إن كان هذا الشّرط في صلب العقد، لأنّه شرط فاسد، ووثيقة بغير دين. 116 - وفي كلام فقهاء الحنفيّة ما قد يشعر بأنّ الدّين ينتقل بضماناته، لأنّهم يستعملون في التّعبير عن انتقاله صيغ عموم تشمل تلك الضّمانات: فهم مثلاً حين يعلّلون لماذا تكون الحوالة بدين حالّ على المحال حالّةً، كذلك على المحال عليه، وبدين مؤجّل مؤجّلةً؟ يقولون: لأنّ الحوالة لتحويل الدّين من الأصيل، وإنّما يتحوّل بالصّفة الّتي كانت على الأصيل. ولكن يبدو أنّ هذا التّعميم غير مقصود إلاّ فيما يشبه الأجل من وجوه الدّفع والتّبرّي الّتي كانت للمدين. ولذا حين يعالجون مسائل التّأمينات والضّمانات، نجدهم قاطعين بنفي انتقالها، بل بانقضائها بمجرّد إبرام عقد الحوالة. والاتّجاه الغالب عند الحنفيّة هو التّفريق بين نوعين من الضّمانات.
117 - كالكفالة والرّهن، وحقّ البائع في حبس المبيع بالثّمن، وحقّ المرأة في حبس نفسها حتّى تقبض معجّل مهرها وثيقةً به. وهذه لا تنتقل مع الدّين بمعنى أنّها لا تستمرّ ضمانًا به محلّه الجديد، بل تنقضي بمجرّد الحوالة، لأنّ انتقال الدّين عن ذمّة المدين المحيل هو براءة لذمّته، فلا مساغ للتّوثّق عليها بعد براءتها، وإذن فالدّين بانتقاله يتجرّد من ضماناته تلك، ويكون في محلّه الجديد غير مضمون بها. وللدّائن أن يطالب المحال عليه بوثيقة جديدة ينشئانها معاً - فإن وافق فذاك، وإن أبي فلا سبيل عليه، ولذا جاء في تلخيص الجامع: جاز للمحال أن يسترهن منه، أي المحال عليه.
118 - وهي الأسباب والحجج الّتي تكون للمدين التّعلّق بها، لدفع دعاوى دائنيه، ولذا تسمّى في العرف الحاضر بالدّفوع، كالأجل يتعلّق به لدفع المطالبة قبل حلول الدّين، واستحقاق المبيع، أو عدم تقوّمه، لدفع المطالبة بثمنه، وسبق الوفاء أو التّقاصّ، لدفع دعوى بقاء الذّمّة مشغولةً، وهذه حيث لا مانع تنسحب على الدّين في محلّه الجديد. ولا ينتقل مجرّداً عنها، إذ يكون للمحال عليه التّمسّك بها، كما كان هذا التّمسّك للمحيل، وما يزال، فيمكن القول: إنّ الدّين ينتقل بهذا النّوع من الضّمانات، لأنّها تسند إلى مديونيّة المحيل الّتي هي أساس الحوالة، وإن بقيت أيضًا في محلّه الأوّل، فهي من الحقوق المشتركة. إلاّ أنّ الظّاهر من كلام الحنفيّة أنّ المحال عليه لا يتولّى الدّفع بغير الأجل ممّا ذكر إلاّ نيابةً عن الأصيل، فما لم تثبت تلك النّيابة، بوجه شرعيّ، لا يكون له ذلك. لكن في حالة غيبة الأصيل له التّعلّق بهذه الدّفوع دون نيابة، ولذا جاء في البحر الرّائق:" غاب المحيل، وزعم المحال عليه أنّ مال المحال على المحيل كان ثمن خمر " لا تصحّ دعواه، وإن برهن على ذلك، كما في الكفالة. ولو أحال امرأته بصداقها على رجل، وقبل الحوالة، ثمّ غاب الزّوج، فأقام المحال عليه بيّنةً أنّ نكاحها كان فاسداً، وبيّن لذلك وجهاً، لا تقبل بيّنته، ولو ادّعى أنّها كانت أبرأت زوجها عن صداقها، أو أنّ الزّوج أعطاها المهر، أو باع بصداقها منها شيئاً وقبضته، قبلت بيّنته، وإن كان البيع غير مقبوض لا تقبل بيّنته. والفرق أنّ مدّعي فساد النّكاح متناقض، أو لأنّه يدّعي أمراً مستنكراً فلا تسمع دعواه، بخلاف دعوى الإبراء أو البيع - أي بيع الزّوج لامرأته شيئاً بصداقها - لأنّه غير مستنكر، وكذا في الكفالة. فعلى هذا لو ادّعى المحيل أنّه أوفاه الدّين بعدها تسمع وتقبل بيّنته أنّه غير مستنكر. والتّفريق بين النّوعيّة من الضّمان في الحكم هو الاتّجاه الغالب عند الحنفيّة، وخالف محمّد بن الحسن - على الرّغم من أنّ الصّحيح أنّه قائل كأبي يوسف بانتقال الدّين إلى ذمّة المحال عليه لا المطالبة فقط - لأنّه يرى أنّ النّوع الأوّل من الضّمانات ينتقل أيضاً مع الدّين، ويكون وثيقةً به في محلّه الجديد، لا تنفكّ إلاّ بسقوطه وبراءة الذّمّة منه.
أ - حقّ المحال عليه في ملازمة المحيل: 119 - يرى الحنفيّة أنّ ملازمة المحال عليه للمحيل خاصّة بالحوالة المطلقة. أمّا ملازمة المحال للمحال عليه فهي حكم عامّ يثبت في كلّ حوالة. وهذان الحقّان في اللّازمة أحدهما - وهو حقّ المحال عليه - تبع للآخر - وهو حقّ المحال - ما دام الوفاء لم يتمّ بعد. فإنّ المحال إذا لازم المحال عليه، كان للمحال عليه أن يلازم المحيل، ليخلّصه وإذا حبسه المحال، كان له أن يحبس المحيل، لهذا الغرض نفسه، لكن بشريطتين أخريين: أ - أن تكون الحوالة بإذن المحيل، أعني المدين الأصليّ. ب - وأن تكون الحوالة مطلقةً غير مقيّدة، لأنّه عند توافر هذه الشّرائط، يكون المحيل هو الّذي جرّ على المحال عليه هذه التّبعة، فعهدة تخليصه عليه جزاءً وفاقاً. أمّا إذا لم يلازمه المحال أو يحبسه، فبأيّ حقّ يلازم هو المحيل أو يحبسه، والفرض أن ليس له عليه دين؟ فإذا لم تكن الحوالة بإذن المحيل يكون المحال عليه متبرّعاً بالتزامها، فلا يتوجّه له على المحيل حقّ، وإذا كانت الحوالة مقيّدةً لم تكن ملازمته للمحيل، أو حبسه بأولى من العكس، فيمتنعان إذ لو استعمل هو حقّه في ذلك لعامله المحيل بالمثل، فلا تكون ثمّ جدوى. 120 - وواضح أنّ الشّرائط الّتي شرطها الحنفيّة لملازمة المحال عليه المحيل، يستغني غير الحنفيّة منها عن شريطة رضا المحيل، إذ الحوالة عندهم لا تكون إلاّ برضاه (ر: ف / 33) كما يستغنون - باستثناء مثبتي الحوالة المطلقة منهم - عن شريطة الحوالة المقيّدة، لأنّ الحوالة عندهم لا تكون إلاّ مقيّدةً (ر: ف / 25). ب - حقّ المحال عليه في الرّجوع: أوّلاً - حالة الأداء الفعليّ: 121 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ استحقاق رجوع المحال عليه بعد أدائه دين الحوالة، لا يتصوّر في حوالة صحيحة عند غير الحنفيّة من نفاة الحوالة المطلقة، لأنّ المحال عليه عندهم هو مدين للمحيل، فما يؤدّيه بحكم الحوالة إنّما يوفّي به ذمّته المحال عليها، فلا رجوع له (ر: ف / 25، و / 66). 122 - ويرى الحنفيّة أنّه متى أدّى المحال عليه إلى المحال استحقّ الرّجوع على المحيل إذا توافرت شرائط الرّجوع التّالية: أ - أن تكون الحوالة برضا المحيل: لأنّ المحال عليه حينئذ إذا أدّى لا يكون متبرّعاً، بل يكون في حقيقة الأمر قد اشترى من المحال الدّين الّذي له في ذمّته بما أدّاه هو إليه، وحيث ملك الدّين استحقّ الرّجوع به على المدين، كما لو ورثه أو وهب منه، أمّا إذا كانت الحوالة بغير رضا المدين، كما لو قال قائل للطّالب: لك على فلان ألف فاحتل بها عليّ فقبل الطّالب، فإنّ الحوالة حينئذ صحيحة على المعتمد، ولكن لا تثبت للمحال عليه ولاية الرّجوع على المدين إذا أدّى، لأنّه يكون متبرّعًا بالأداء، لا مالكاً للدّين بطريق الشّراء حذراً من تمليك الدّين من غير من عليه الدّين. وإنّ الرّجوع في الحوالة يكون بحكم الملك. ب - أن يؤدّي المحال عليه مال الحوالة إلى المحال: لأنّه إذا لم يؤدّ لم يملك الدّين، وهو إنّما يرجع بحكم ملكه. ج - أن لا يكون المحال عليه مديناً للمحيل بمثل دينه: لأنّه لو كان مديناً لالتقى الدّينان ووقع التّقاصّ، ومن ثمّ يمتنع الرّجوع، لأنّه لو رجع على المحيل، لرجع المحيل عليه، فيكون عبثاً. 123 - ويرجع المحال عليه بالمحال به، إلاّ في حالة واحدة، هي ما إذا صالح المحال عليه المحال عن حقّه بأقلّ منه من جنسه فإنّه يرجع بما أدّى. فمثلاً لو كان حقّه مائة دينار فصالحه عنها بثمانين، لم يكن له حقّ الرّجوع إلاّ بالثّمانين الّتي أدّاها. والمحال عليه بعين للمحيل عنده، كوديعة إذا لم يعط المحال تلك العين نفسها، وإنّما قضى الدّين من ماله هو، يعدّ متبرّعاً لا رجوع له على المحيل قياساً، لكنّهم استبعدوا ذلك استحساناً، ومنحوه حقّ الرّجوع بما أدّى، فإن كان هناك غرماء فإنّه يحاصّهم. ثانيًا: حالة الأداء الحكميّ: 124 - يقوم مقام الأداء الفعليّ الأداء الحكميّ عند الحنفيّة. وفي حالة الأداء الحكميّ بطريق الحوالة، أي إذا أحال المحال عليه الطّالب على غير المحيل، لا يملك المحال عليه الأوّل حقّ الرّجوع على المحيل، إلاّ بعد قبض الطّالب فعلاً من المحال عليه الثّاني، وعلّله السّرخسيّ بقوله: لأنّه بعرضة العود على الأصيل، لأنّ الحوالة تنفسخ بموت المحال عليه مفلساً. ج - حقّ المحيل في مطالبة المحال عليه: 125 - يقرّر الحنفيّة أنّ المحال عليه في الحوالة المطلقة، إمّا أن يكون مديناً للمحيل أو عنده له عين، وإمّا أن لا يكون: أ - فإن كان: طولب بعد الحوالة بدينين، أو دين وعين. 1 - دين الحوالة الّذي التزمه بمقتضاها ونشأ معه للمحال حقّ مطالبة لم تكن. 2 - ودين المحيل القائم بذمّته من قبل، أو ماله الّذي عنده، مقترنًا بحقّ مطالبة قديمة، فإنّ هذا الحقّ القديم لا ينقطع بسبب الحوالة، لأنّها لم تقيّد بالدّين السّابق ولا بالعين فبقيا كما كانا بحقوقهما كاملةً، ومنها حقّ المحيل في مطالبته والقبض منه. ويظلّ المحال عليه كذلك إلى أن يؤدّي إلى المحال، فإذا أدّى سقط ما عليه بطريق المقاصّة لكنّها مقاصّة دين للمحال عليه بعين للمحيل فتتوقّف على التّراضي. ب - وإذا لم يكن للمحيل عنده شيء، فإنّما يطالب بدين واحد، وهو دين الحوالة لا غيره، ثمّ إذا أدّاه ثبت له حقّ الرّجوع على المحيل إن كانت الحوالة برضاه، وإلاّ فلا رجوع عليه. والطّالب في هذه الحالة هو المحال وحده، إلاّ أنّه في الحوالة المؤجّلة لا تستحقّ مطالبته أثناء الأجل، فهي إذن لا تحلّ عليه إلاّ بموته هو، لا بموت المحيل - وإن كان تأجيله تابعاً لتأجيل المحيل - لأنّ حلول الأجل في حقّ الأصيل، إنّما هو لاستغنائه عن الأجل بموته، فإذا مات هو فإنّ المحال عليه ما زال على قيد الحياة، وفي حاجة إلى الأجل، فلا وجه لحلوله عليه بحلوله على الأصيل، لأنّ الأصيل برئ عن الدّين في أحكام الدّنيا والتحق بالأجانب. وبقاء المحيل على قيد الحياة لا يؤثّر في حلول الأجل على المحال عليه بموته هو، لأنّه استغنى عن الأجل بموته، ثمّ إن لم يكن في تركته وفاء بدين الحوالة، استحقّ الطّالب الرّجوع على المحيل إلى أجله الأصليّ، لأنّ هذا الأجل لم يكن سقط حقيقةً، وإنّما سقط في ضمن الحوالة حكماً، وقد انتقضت الحوالة بموت المحال عليه مفلسًا فينتقض ما تضمّنته، أعني سقوط الأجل. نظيره: ما لو أنّ المدين بدين مؤجّل باع به سلعةً من دائنه ثمّ استحقّت السّلعة، فإنّ الأجل يعود، لأنّ سقوطه إنّما كان بحكم البيع، وقد انتقض البيع. نعم إن كان الأجل باقياً لكن المحال عليه نزل عنه فذاك، إذ الأجل حقّه فيسقط بإسقاطه. " نظيره ما لو أسقط الأصيل الأجل قبل الحوالة " ثمّ إن أدّى قبل الموعد الأصليّ لحلول الأجل فليس له أن يرجع على المحيل حتّى يحلّ ذاك الموعد، إذ إسقاط الأجل صحيح في حقّه، لا في حقّ المحيل. 126 - ويقرّر الحنفيّة كذلك في الحوالة المقيّدة أنّ المحيل لا يملك مطالبة المحال عليه بالمال الّذي قيّد وفاؤها به، لأنّه قد تعلّق به حقّ المحال، فإنّه إنّما رضي بنقل حقّه إلى المحال عليه على أن يوفّيه حقّه ممّا للمحيل عنده، فتعلّق به حقّ استيفائه، فلو أخذه المحيل لبطل هذا الحقّ، فلا يسلّط على أخذه، وإلاّ فات الرّضا، وبطلت الحوالة. وبعبارة أوجز: لمّا قيّدت الحوالة بشيء تعلّق حقّ الاستيفاء به كالرّهن، فلا يزاحم فيه المستحقّ، ولا يدفع إلى غيره. فإذا اتّفق أنّ المحال عليه دفعه إلى المحيل وجب عليه ضمانه للمحال، لأنّه فوّت عليه ما تعلّق به حقّه، كما لو استهلك الرّهن أحد، فإنّه يضمنه لصاحب حقّ الاستيفاء منه وهو المرتهن. 127 - وهذان الأثران ليسا عند جماهير الفقهاء من غير الحنفيّة مجرّد سقوط مطالبة المحيل ومنع الدّفع إليه، لأنّ حقّه صار كالمرهون، بل عند الجماهير يبرأ المحال عليه من دين المحيل، ومن ثمّ يمتنع الدّفع إليه، لأنّ حقّه صار ملكًا للمحال، ولذا إذا توي فإنّما يتوى على المحال نفسه.
128 - انتهاء الحوالة قد يكون بأداء مالها إلى المحال، وقد يكون بما يساوي هذا الأداء، وقد يكون بدون هذا وذاك، ويمكن ترتيب ذلك. في فرعين:
129 - إذا أدّى المحال عليه مال الحوالة - بعينه إن كان عيناً، وبمثله إن كان ديناً - إلى المحال أو من ينوب منابه فهذه هي غايتها المنشودة. ومتى انتهت إلى غايتها فلا بقاء لها. بل لو تحقّقت هذه الغاية لا عن طريق المحال عليه مباشرةً، بل عن طريق متبرّع بالوفاء - وهو لا يكون إلاّ متبرّعًا عن المحال عليه، ما لم يصرّح بخلافه - فإنّ هذا الوفاء والّذي قبله سواء، من حيث إنهاء الحوالة. وقد لا يؤدّي المحال عليه العين نفسها الّتي قيّدت بها الحوالة، ولا مثل دينها - مطلقةً كانت أو مقيّدةً - ومع ذلك تنتهي الحوالة، لأنّه قد وقع ما يساوي هذا الأداء، كما في الحالتين التّاليتين: أ - أن يؤدّي المحال عليه شيئاً آخر عن تراض بينه وبين المحال: كما لو كانت الحوالة مقيّدةً بوديعة - ككتاب أو أكثر - فيؤثّر المحال عليه الاحتفاظ لنفسه الوديعة لرغبته فيها ويعيض المحال منها قيمتها نقداً، أو كان المحال به ديناً على المحيل، مقداره ألف دينار مثلًا، فيرغب المحال عليه وهو تاجر أن يبايع بها المحال فيعرض عليه أن يعيضه من دنانيره، بضائع كثياب أو غيرها. ب - أن يموت المحال، ويرث المحال عليه مال الحوالة: لأنّ الإرث من أسباب الملك فيملك المحال عليه الدّين في هذه الحال. وهذا يعادل تماماً ما لو كان قد وفّاه دينه قبل وفاته، ثمّ عاد إليه المال بطريق الميراث. وفي معنى الإرث أن يهب المحال المحال عليه دين الحوالة أو يتصدّق به عليه فيقبل أو لا يردّ.
130 - تنتهي الحوالة دون تنفيذ في حالتين: الأولى: الانتهاء الرّضائيّ. الثّانية: الانتهاء غير الرّضائيّ.
وذلك بطريقين: الأوّل: الانتهاء بطريق التّقايل " التّراضي على الفسخ ". الثّاني: الانتهاء بطريق الإبراء. أ - الانتهاء بطريق التّقايل " التّراضي على الفسخ ". 131 - الفسخ في اصطلاح الفقهاء هو إنهاء العقد قبل أن يبلغ غايته، وعبارة ابن نجيم: " الفسخ حلّ ارتباط العقد ". فإذا أراد واحد أو أكثر من أطراف الحوالة - دون أن يكون له خيار الشّرط - أن يرجع في الحوالة، فقد قال الحنفيّة: " إنّ المحيل والمحال يملكان النّقض " أي نقض الحوالة. وظاهر أنّهم يعنون أن يكون ذلك عن تراض بينهما، لا أن يكون بطريق الإرادة المنفردة. وعلى ذلك فإنّ المحيل لا يملك إبطال الحوالة بعد ثبوت صحّتها. أمّا المحال عليه، فإذا تراضى مع بقيّة أطراف العقد على نقضه فذاك. وإذا تراضى الطّرفان الآخران واعترض هو، فلا قيمة لاعتراضه هذا، لأنّ العقد حقّهما، ولصاحب العقد إسقاطه. أمّا أن يستبدّ هو بفسخ العقد فهذا ما لا سبيل إليه. 132 - ومفاد ما تقدّم: أنّ الحوالة عند الحنفيّة تقبل التّفاسخ والتّقايل برضا الطّرفين الأوّلين فيه والمحيل والمحال فقط، ولا يتوقّف ذلك على رضا المحال عليه. وقد نقل الخطيب عن الرّافعيّ: عدم صحّة التّقايل في الحوالة، كما أنّ المتولّي مصرّح بأنّ الحوالة من العقود اللّازمة، وأنّها لو فسخت لا تنفسخ. والّذي ذكره السّيوطيّ في فتاويه أنّ البلقينيّ حكى في صحّة إقالتها خلافاً، نقلاً عن الخوارزميّ، وكلّ ما فعله أنّه رجّح الصّحّة لما مرّ من أنّها بيع، كما أنّه يوجد بإزاء نصّ المتولّي العامّ نصّ عامّ يقابله، وهو قولهم: " فسخ الحوالة انقطاع من حينه " وإذن فالخلاف ثابت في المذهب. 133 - ويستوي عند الحنفيّة أن يكون التّراضي على الفسخ إلى غير بديل، أو إلى بديل. ومن النّوع الثّاني تصريحهم بأنّ " الحوالة إذا تعدّدت على رجلين كانت الثّانية نقضاً للأولى " فهذه كأنّها استعاضة عن حوالة بحوالة. فإذا كان الرّجلان المحال عليهما بمثابة رجل واحد، لأنّهما أصيل وكفيله، وإنّما التّعدّد الحقيقيّ في جانب المحال، فإنّ الثّانية لا تكون نقضًا للأولى، بل إمّا أن تصحّ الحوالتان، وإمّا أن تصحّ الأولى، وتلغو الثّانية. والسّرّ في ذلك أنّ الحوالة على الكفيل لا تقتضي براءة الأصيل من حقّ المحيل، فيتسنّى للمحيل أن يحيل عليه بعد أن أحال على الكفيل، بخلاف العكس، إذ إنّ الحوالة على الأصيل تقتضي براءته وبراءة الكفيل كليهما من حقّ المحيل براءة مراعاة - وسمّاها بعضهم: تأخير المطالبة - فلا يسعه بعد أن أحال على الأوّل أن يحيل على الثّاني، وقد أصبح بريئاً. ب - الانتهاء بطريق الإبراء: 134 - إبراء المحال للمحال عليه من دين الحوالة يقع تحت احتمالين فهو إمّا أن يكون إبراء استيفاء، أو إبراء إسقاط. 135 - أ - فإذا كان إبراء استيفاء فإنّه في معنى الإقرار بالقبض. وعندئذ تنتهي الحوالة بما دلّ عليه هذا الإبراء من وقوع الوفاء فعلاً. وتصبح المسألة من قبيل النّهاية بطريق الأداء، ويترتّب فيها ما يترتّب على أداء الحوالة من حقّ المحال عليه في الرّجوع بدين الحوالة على المحيل إن لم يكن مديناً له بمثله. فإن كان مديناً له وقع التّقاصّ بينهما. 136 - ب - وأمّا إذا كان إبراء المحال للمحال عليه إبراء إسقاط قبل الوفاء، فإنّه يخرج به المحال عليه من الحوالة كما صرّح به صاحب البدائع وغيره. وعندئذ يسقط حقّ المحال في دين الحوالة سقوطًا نهائيّاً، ولو كانت الحوالة على كفيل المدين ومقيّدةً بدين الكفالة. ذلك لأنّ حقّ المحال قد تحوّل عن المحيل بمقتضى الحوالة نفسها حيث يبرأ بها المحيل ويحلّ محلّه المحال عليه في التزام الأداء. فإذا أبرئ المحال عليه لم يبق للمحال حقّ تجاه أحد، سواء أكان المحال عليه مديناً أصليّاً للمحيل أم كفيلاً أم غير مدين أصلاً، بأن كانت الحوالة مطلقةً عند الحنفيّة. 137 - ج - وقد يقع هذا الإبراء - إبراء الإسقاط - من المحال للمحال عليه بعد أن أدّى هذا إليه دين الحوالة، ويكون هذا عند الحنفيّة إبراءً صحيحاً، بناءً على نظريّتهم في أنّ إيفاء الدّيون لا يسقطها من الذّمم، وإنّما يؤدّي إلى المقاصّة وامتناع المطالبة: فإنّ الدّين قبل الوفاء يكون قائماً بذمّة المدين، وبالأداء يقوم دين نظيره في ذمّة الدّائن المستوفي، أي يصبح المدين دائناً أيضاً لدائنه فيصير كلّ منهما دائناً ومديناً للآخر، فتمتنع المطالبة من الجانبين لعدم فائدتها، وهذه هي المقاصّة. فالإبراء بعد الأداء الأصل فيه أن يكون إبراء استيفاء، لكن إذا صرّح المبرّئ أو دلّت القرائن على أنّه أريد به الإسقاط فإنّه يصادف ديناً قائماً فيسقطه، ولكن هذا لا يؤثّر في الحوالة الّتي تنتهي بمجرّد الأداء، وإنّما يقتصر أثره على أن يصبح للّذي أبرئ - أي المحال عليه - حقّ مطالبة المحال الّذي أبرأه بما كان قد أدّاه إليه، لأنّه بعد الإبراء أصبح المقبوض بلا مقابل، فتنتقض المقاصّة السّابقة التّقدير. هذا، ولا نعلم أحداً من أهل العلم والاجتهاد يقول بما يقول به الحنفيّة في هذا الشّأن، أي بصحّة الإبراء بعد الوفاء، بناءً على نظريّتهم الآنفة الذّكر.
وذلك في أربع حالات: 138 - يرى جمهور الفقهاء عدم انفساخ الحوالة بموت المحيل، لأنّ المال قد تحوّل من ملك المحيل إلى ملك المحال (ر: ف / 127) وما تأثير موت المحيل في الحوالة بعد صحّتها ولزومها إلاّ كتأثير موت بائع السّلعة بعد صحّة البيع ولزومه، بل بعد إقباضه إيّاها فضلاً عن الصّحّة واللّزوم، لأنّ الحوالة عندهم بمثابة الإقباض والتّسليم. نعم تتأثّر الحوالة بموت المحال عليه، إذ يحلّ به دينها المؤجّل، وفي ذلك يقول صاحب نهاية المحتاج: لو أحال بمؤجّل على مثله حلّت الحوالة بموت المحال عليه، ولا تحلّ بموت المحيل، لبراءته بالحوالة. ويؤخذ مثله من نصّ المالكيّة في الضّمان، وفي الشّرح الكبير للحنابلة: فإن مات المحيل أو المحال فالأجل باق بحاله، وإن مات المحال عليه انبنى على " قاعدة حلول الدّين بالموت - أي بموت المدين " - وفيه روايتان، ولا يعلم في حلول الدّين بموت المدين خلاف لأحد من أرباب المذاهب المدوّنة سوى أحمد في إحدى هاتين الرّوايتين. ويترتّب على ذلك عند الجمهور أنّ ما قبضه المحال من المحال عليه - قبل موت المحيل أو بعده، في صحّته أو مرضه - كلّ ذلك هو له خاصّةً لا يشركه فيه أحد من غرماء المحيل، كما لا يشركونه في سلعة كان اشتراها في حال الصّحّة. ويرى الحنفيّة أنّه إذا مات المحيل حوالةً مطلقةً لا تنفسخ هذه الحوالة. ثمّ إن كان له على المحال عليه مال " بالمعنى الشّامل للدّين توسّعاً، فإنّه مال حكميّ عند الحنفيّة " فلا شأن للمحال بهذا المال ولا تعلّق لأنّ حقّه في ذمّة المحال عليه، وهذا المال تركة للمحيل، فيئول إلى ورثته، بعد أن تقضى منه الحقوق المقدّمة، كالدّيون الأخرى غير دين المحال، لأنّه لا يعود على المحيل ما دامت الحوالة قائمةً، وموت المحيل لا يبطل الحوالة المطلقة. 139 - وأمّا في الحوالة المقيّدة، فقد يموت المحيل قبل استيفاء دينها، وفي هذه الحالة تنفسخ الحوالة، لأنّ المال الّذي قيّدت به قد استحقّ من المحال عليه، ودخل في تركة المحيل، وعلى هذه التّركة يعود المحال بدينه، ويكون أسوة الغرماء، هكذا علّل صاحب - البدائع - ثمّ فرّق بين الحوالة والرّهن، بأنّ المرتهن اختصّ بغرم الرّهن من بين سائر الغرماء، لأنّه إذا هلك سقط دينه خاصّةً، ولمّا اختصّ بغرمه اختصّ بغنمه، لأنّ الخراج بالضّمان. وأمّا المحال في الحوالة المقيّدة فلم يختصّ بغرم ذلك المال، لأنّه لو توي لا يسقط دينه عن المحيل. فلمّا لم يختصّ بغرمه لم يختصّ بغنمه، ويكون أسوة الغرماء. 140 - ومن نتائج القول بالانفساخ عند الحنفيّة: - أ - إنّ المحال إذا رجع إلى تركة المحيل وعرف نصيبه في القسمة بين الغرماء، فأراد أن يستوفي نصيبه هذا من المحال عليه بدلًا من التّركة لم يجز له ذلك، لأنّ ما على المحال عليه صار مشتركًا بين المستحقّين. - ب - لو نقصت حصّة المحال في المقاسمة عن الوفاء بدينه، لا يكون له حقّ الرّجوع بما بقيّ له على المحال عليه، لأنّه صار تاوياً فلا يرجع به على أحد. - ج - إن كان المحال قد قبض شيئًا من دين الحوالة قبل موت المحيل - ولو في أثناء مرضه - فله ما قبضه، ثمّ يحاصّ الغرماء في الباقي. لكن في حالة القبض، والمحيل مريض مرض الموت، يوجد في كلام بعضهم تفرقة بين قبض الدّين وقبض العين. 1 - ففي قبض الدّين يسلّم للمحال ما أخذه، ولا سبيل للغرماء عليه، لكن يكون المحال عليه - بأدائه الدّين - غريمًا للمحيل يستحقّ الرّجوع عليه كسائر الغرماء، ولا يملك الاستئثار بما كان في ذمّته ليقع التّقاصّ، بل يشاركه فيه الغرماء، ولا يسلّم له منه إلاّ حصّته في المحاصّة. 2 - أمّا في قبض العين - كالوديعة والمغصوب - فبالعكس: أي لا سبيل حينئذ لغرماء المحيل على المحال عليه، لكن لا تسلّم العين المأخوذة للمحال، بل يحاصّه فيها الغرماء.
141 - نصّ بعض الحنفيّة على أنّ الحوالة تنتهي بموت المحال عليه، وذهب آخرون منهم إلى أنّ الحوالة لا تنتهي بموت المحال عليه سواء مات مدينًا أم غير مدين. إلاّ أن يكون قد مات مفلساً، فإنّ الحوالة حينئذ تنتهي في الدّين كلّه - إن لم يترك وفاءً بشيء منه - أو تنتهي في باقيه، إن ترك وفاءً ببعضه، ويرجع الباقي إن مات المحال عليه مفلساً، وسيجيء في التّوى (ر: ف / 164): ذلك أنّ التّركة خلف عن صاحبها في قضاء دينه، كما صرّح به السّرخسيّ في المبسوط.
- أ - ارتفاع المال المحال به أصالةً: 142 - اتّفق الفقهاء على أنّه إذا أحال المشتري البائع بالثّمن على ثالث، ثمّ استحقّ المبيع، تبطل الحوالة، لأنّه تبيّن أنّ المحيل - وهو المشتري - غير مدين للمحال - البائع - ومديونيّة المحيل للمحال شريطة لانعقاد الحوالة لا تقوم بدونها كما تقدّم بيانه (ف / 59). - ب - ارتفاع المال المحال عليه أصالةً: 143 - في الحوالة المطلقة: لو كان للمحيل على المحال عليه دين أو عين هي أمانة أو مضمونة، فاستحقّت أو تبيّن أنّ الدّين لم يجب أصلاً في حقيقة الأمر، كما لو كان ثمن مبيع فاستحقّ المبيع، فإنّ الحوالة تبقى كما هي صحيحةً نافذةً، لا يتطرّق إليها بطلان أو انفساخ، لأنّ دين الحوالة المطلقة إنّما يتعلّق بذمّة المحال عليه - كما سبق بيانه - وفي الذّمّة سعة، فلا يتأثّر بمثل هذه العوارض، وقد سبق بحث ذلك (ر: ف / 66). 144 - أمّا في الحوالة المقيّدة: فيقرّر الفقهاء في الجملة أنّ المال الّذي تقيّد الحوالة بإيفاء دينها به أو منه، إذا كان عيناً - أمانةً كانت أو مضمونةً كالمغصوبة - ثمّ تبيّن استحقاقها لغير المحيل، أو كان ديناً ثمّ تبيّن انعدامه من الأصل لا بسبب عارض، أي إنّ الذّمّة لم تشغل به أصلاً، لا أنّها شغلت ثمّ فرغت بسبب طارئ: فهنا يتبيّن بطلان الحوالة، بمعنى عدم انعقادها بتاتاً. مثال ذلك في الأعيان: رجل له عند رجل ألف دينار. بطريق الوديعة أو الغصب، فأحال عليه بها دائناً له، ثمّ بعد ذلك تبيّن أنّ هذه الدّنانير ليست ملكاً للمحيل، ولا له عليها ولاية، كما لو كانت في يده بطريق السّرقة، أو ظهرت مستحقّةً لغيره، فإنّ الحوالة تبطل لأنّها علقت بمعدوم حكماً. ومثاله في الدّيون: رجل باع آخر منزلاً أو خلّاً، فأحال عليه بالثّمن دائناً له، ثمّ بعد ذلك استحقّ المبيع أو تبيّن أنّ الخلّ خمر، فتبطل الحوالة،لأنّها قيّدت بدين لم يكن له وجود قطّ. وفي جميع الأحوال متى بطلت الحوالة، فإنّ الدّين يعود على المدين الأصليّ، وهو المحيل. ومن أمثلتهم: ما لو باع منزلاً، وأحال على ثمنه، أو أحيل هو به، ثمّ تبيّن أنّ المنزل موقوف، إمّا ببيّنة، وإمّا بإقرار الأطراف الثّلاثة - المحيل والمحال والمحال عليه - وكذا عند الشّافعيّة ما لو أحال على أجرة شهر لدار له، فمات المستأجر خلاله، إذ قالوا: تبطل الحوالة في مقابل ما بقي من المدّة، لبطلان الإجارة فيها. قال الباجيّ في تعليل القول: بأنّ الحوالة باطلة، والدّين كما كان، ولو دفع المحال عليه إلى المحال لرجع عليه به، فهو أنّ المحال عليه ليس طرفًا في عقد الحوالة، وإنّما يلزمه أن يدفع الثّمن للبائع المحيل - مباشرةً، أو بواسطة كالمحال - لأنّه مستحقّ عليه للبائع بعقد آخر، فإذا سقط استحقاقه بهلاك المبيع مثلاً قبل التّسليم برئت ذمّته من الثّمن فلا يكلّف أداءه، وإن كان قد دفعه حقّ له استرداده، ومعلوم أنّ من شرائط الحوالة أن يكون على المحال عليه مثل ما على المحيل فإذا انتفى الشّرط انتفى المشروط. قال ابن الموّاز: هذا أحبّ إليّ، وهو قول أصحاب مالك كلّهم. يرى ابن القاسم من المالكيّة أنّ الحوالة معروف، وأنّها لا تبطل بتبيّن أن لا دين على المحال عليه، ويرجع بعد أدائه على المحيل. وعلّل الباجيّ تعليل كلا الوجهين عندهم. أمّا تعليل قول ابن القاسم بعدم البطلان فهو أنّ الحوالة عقد لازم، فلا ينتقص في حقّ المحال باستحقاق سلعة لم يعاوض هو عليها بدين الحوالة سواء قبضه أم لم يقبضه بعد. ج - ارتفاع المال المحال به عروضاً: 145 - يرى الحنفيّة أنّه إذا أحال المشتري البائع بالثّمن على ثالث، حوالةً مقيّدةً " أو مطلقةً "، ثمّ هلك المبيع عند البائع قبل تسليمه إلى المشتري أو ردّ عليه بعيب بعد التّسليم، تبطل الحوالة، لأنّه قد تبيّن أنّ المحيل وهو المشتري غير مدين. د - ارتفاع المال المحال عليه عروضاً: 146 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المال المحال عليه إذا كان ثابتًا ثمّ طرأ عليه الارتفاع له ثلاث حالات. الحالة الأولى: ارتفاع المحال عليه عروضاً في الحوالة المطلقة: 147 - إذا كان للمحيل مال عند المحال عليه ولكن الحوالة صدرت مطلقةً لم يقيّد فيها الوفاء بذلك المال، فإنّ هذه الحوالة المطلقة لا تبطل بفوات المال الّذي للمحيل عند المحال عليه سواء أكان بخلوّ يده من العين الّتي كانت له عنده بهلاك، أم كان باسترداد المحيل ماله من المحال عليه، إذ أنّ حقّ الطّالب إنّما تعلّق بذمّة المحال عليه، لا بشيء، عنده أو عليه، وفي الذّمّة سعة. فللمحيل أن يطالب المحال عليه بما له عنده، كما أنّ للمحال أن يطالبه بدين الحوالة. فإذا أدّى هذا الدّين الأخير، سقط عنه الدّين الأوّل بطريق المقاصّة بين دين الحوالة الّذي أدّاه ودين المحيل. وقد سئل ابن نجيم عن مدين باع دائنه شيئاً بمثل دينه، ثمّ أحال عليه بالثّمن أو بنظيره، هل تصحّ الحوالة؟ فأجاب: إن وقعت بنظير الثّمن صحّت، لأنّها لم تقيّد بالثّمن – ولا يشترط لصحّتها دين على المحال عليه – وإن وقعت بالثّمن فهي مقيّدة بالدّين، وهو مستحقّ للمحال عليه، لوقوع المقاصّة بنفس الشّراء، وقدّمنا أنّ الدّين إذا استحقّ للغير فإنّها تبطل. الحالة الثّانية: ارتفاع المال المحال عليه عروضاً في الحوالة المقيّدة بعين: 148 - لا تبطل الحوالة المقيّدة إذا كان المال الّذي قيّدت به الحوالة عيناً مضمونةً، ثمّ لحقها الهلاك بسبب طارئ، كما لو ضاعت أو سرقت أو تلفت في حريق مثلاً، فإنّ الحوالة تبقى كما هي، ومطالبة المحال عليه متوجّهة، كما كانت قبل التّلف لأنّ الحوالة قيّدت حين عقدت بشيء موجود فعلًا، فلا يضير ارتفاعه الطّارئ، لأنّ العين المضمونة كالمغصوب مثلًا إذا هلكت وجب على ضامنها مثلها، إن كانت مثليّةً، وقيمتها إن كانت قيميّةً، فيكون فواتها إلى خلف. والفوات إلى خلف كالبقاء حكماً، لأنّ الخلف قائم مقام الأصل، فيتعلّق به حقّ المحال. وهذا منطبق تماماً على الأمانات الّتي تفوت بتعدّي من هي عنده، إذ هي إذ ذاك تدخل في عداد الأعيان المضمونة بخلاف الفوات بطريق استحقاق العين للغير، ولو كانت مغصوبةً، فإنّ الذّمّة تبرأ فيه من ضمانات الفائت بعوده إلى مالكه، فيفوت إلى غير خلف، ولذا تبطل الحوالة به، كما تقدّم (ر: ف / 143) أمّا فوات الأمانات بغير تعدّي من هي عنده، كالوديعة إذا احترقت أو سرقت، فإنّه ينهي الحوالة، وتبرأ ذمّة المحال عليه ويعود الدّين على المحيل. وإذا استردّ المحيل من المحال عليه العين الّتي قيّدت الحوالة بالأداء منها، لا تبطل الحوالة ولا تتأثّر بذلك، لأنّ المحال عليه متعدّ بدفع ما تعلّق به حقّ المحال إلى من ليس له حقّ أخذه، وربّما كان هذا كيدًا يكيده للمحال، فيضمن المحال عليه للمحال، ويرجع هو على المحيل بما أخذه. الحالة الثّالثة: ارتفاع المال المحال عليه عروضاً في الحوالة المقيّدة بدين: 149 - إذا استوفى المحيل من المحال عليه دينه الّذي قيّدت به الحوالة، لا تبطل الحوالة بذلك ولا تتأثّر به في شيء للسّبب المذكور في حالة استرداد المحيل العين الّتي قيّدت بها الحوالة. 150 - لا تبطل الحوالة المقيّدة إذا كان المال الّذي قيّدت به الحوالة ديناً فات بأمر عارض بعد الحوالة كذلك. مثاله: رجل باع بضاعةً بألف دينار، وأحال على المشتري بثمنها، ثمّ احترقت البضاعة مثلاً أو غرقت قبل تسليمها إلى المشتري، أو ردّت بعيب، أو خيار ما - ولو بعد التّسليم - أو تقايلا البيع، فإنّ الثّمن يسقط عن المشتري، ولكن لا تبطل الحوالة، لأنّ الدّين الّذي قيّدت به كان قائمًا عند عقدها، فليس يضرّ سقوطه بعد. ثمّ إذا أدّى المحال عليه استحقّ الرّجوع على المحيل، لأنّه قضى دينه بأمره. فإذا كان المشتري في المثال الآنف هو المحيل للبائع بالثّمن، فقد تقدّم في الفقرة (145) حكمهم ببطلان الحوالة. 151 - والشّافعيّة يوافقون الحنفيّة على هذه التّفرقة تمام الموافقة، فيما اعتمدوه، وكذلك الحنابلة، فيما عليه القاضي وأصحابه، وإن كانوا كسائر الحنابلة لا يبطلون الحوالة بعد قبض دينها، ويقولون: يتبع صاحب المال ماله حيث كان. وهو وجه لبعض الشّافعيّة (ر: ف /150) وقد علّل الشّافعيّة وموافقوهم بقولهم: إنّ الدّين سقط في الحالين بعد ثبوت، فصار كأن لم يكن، نظير ما لو تبيّن أنّه ثمن خمر موقوف، ومقتضى ذلك بطلان الحوالة فيهما، إلاّ أنّه منع من ذلك مانع في حالة الحوالة عليه، وهو تعلّق حقّ الغير به، وهذا الغير هو المحال. وقد استنبط بعض متأخّري الشّافعيّة من هذا التّعليل أنّه في حالة الحوالة به - أي بالثّمن من قبل المشتري - لو أنّ المحال - وهو البائع - كان قد أحلّ مكانه دائناً له، بطريق الحوالة، قبل سقوط الدّين، لم تبطل الحوالة أيضاً لتعلّق حقّ الغير. 152 - ثمّ الأصحّ أنّه لا فرق عند الشّافعيّة - في حالتي البطلان وعدمه - بين أن يكون طروء الطّارئ المسقط للدّين قد وقع بعد قبض دين الحوالة أو قبله. ويترتّب على بطلانه بعد القبض، أن يرجع صاحب المال " المحيل " على المحال الّذي قبضه - إمّا بعينه إن كان باقيًا، أو ببدله إن كان تالفًا - ولو ردّه المحال على المحال عليه، لأنّه لا يملك الحقّ في هذا الرّدّ، فقد قبض بإذن، فإن لم يقع القبض عن نفسه، وقع عن الآذن، ويتعيّن حقّه فيما قبضه. ويترتّب على بقاء صحّتها قبل القبض أنّ المحال عليه لا يملك الرّجوع على المحيل إلاّ بعد الدّفع. ويفرّق الحنابلة وبعض الشّافعيّة في ذلك بين ما قبل القبض وبعده: فبعد القبض لا تبطل الحوالة عندهم جزماً، بل يتبع صاحب المال ماله حيث كان. أمّا قبل القبض فعندهم قولان: بالبطلان وبعدمه. أمّا أشهب - وهو الّذي اعتمد متأخّرو المالكيّة طريقته في المسألة - فيطلق القول هنا بعدم البطلان، لأنّ الفسخ عارض - إلاّ أنّه يبطل الحوالة بالثّمن أو عليه، إذا ردّ المبيع بعيب. 153 - والتّفرقة بين الحوالة بالدّين والحوالة عليه، جارية على المعتمد عند الشّافعيّة، وعلى قول القاضي وأصحابه عند الحنابلة، ومن هؤلاء وهؤلاء مخالفون: يسوّون بين الحوالة بالدّين والحوالة عليه في البطلان، لما قدّمناه هناك، ولا يأبهون لتعلّق حقّ الغير، لعدم فائدة الحوالة. وآخرون: يسوّون بينهما في الصّحّة - منهم أبو عليّ الطّبريّ من الشّافعيّة - فهم لا ينظرون إلى تعلّق حقّ أجنبيّ، بل إلى أنّ الدّين كان قائماً عند عقد الحوالة على أيّة حال وصحّت الحوالة وبرئت بها ذمّة المحيل، فلا يضرّ سقوطه بعد ثبوته، لأنّه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء. والقياس الّذي كان أبو عليّ الطّبريّ نفسه يتعلّق به: هو أنّ الحوالة بالدّين وعليه، إذا طرأ فاسخ لسبب وجوبه، تقاس على التّصرّف في أحد عوضي البيع، إذا طرأ ما يفسخه، كما لو اشترى زيد بثوبه شيئًا ما من عمرو، وباع زيد هذا الشّيء ثمّ ردّ عليه الثّوب بعيب، فإنّ الصّفقة الثّانية ماضية. والجامع في هذا القياس أنّ كلًّا منهما صفقة سبقتها أخرى، فلا يؤثّر في. الثّانية طروء انفساخ الأولى. 154 - التّوى في اللّغة: وزان الهوى - وقد يمدّ - التّلف والهلاك. هكذا عمّم في - المصباح - وقصره صاحب - الصّحاح - على هلاك المال. ويشتقّ منه فيقال: توي المال - من باب فرح - يتوى، فهو تو وتاو. أمّا في اصطلاح الفقهاء هنا: فالتّوى هو العجز عن الوصول إلى الحقّ، أي عجز المحال عن الوصول إلى حقّه من طريق المحال عليه. 155 - الرّجوع على المحيل إذا توي المال على المحال عليه، لم يقل به سوى الحنفيّة. والّذين وافقوا على الرّجوع بسبب العجز عن الوصول إلى الحقّ في حالات الغرور خاصّةً، لم يعتبروه فاسخاً للحوالة - إن صحّحوا انعقادها - بل سبباً من أسباب الخيار في الإبقاء على عقدة الحوالة أو فسخها. لكن المالكيّة قالوا: إنّه بمجرّد الحوالة، يتحوّل الدّين إلى ذمّة المحال عليه نتيجةً لاعتبارها كالقبض، وتبرأ ذمّة المحيل نهائيّاً، فلا رجوع عليه بسبب فلس المحال عليه، ولو كان هذا الفلس قائمًا عند الحوالة، ولا بجحده للدّين بعد الحوالة، إلاّ أن غرّه المحيل، بأن علم أو ظنّ ظنًّا قويًّا فقر المحال عليه أو جحده، فكتمه عن المحال، فإن ثبت هذا العلم أو الظّنّ، ببيّنة أو إقرار، لم يتحوّل الدّين ولم تبرأ ذمّة المحيل. ومعنى ذلك: أنّ الحوالة باطلة. 156 - نعم إذا شرط المحال الرّجوع عند العجز عن الوصول إلى الحقّ من قبل المحال عليه بسبب معين أو أكثر، فهنا يختلف نفاة الرّجوع بالتّوى: فالمالكيّة، وبعض الشّافعيّة، يقولون إنّ له شرطه. ويعلّله الباجيّ قائلاً: ووجه ذلك أنّ الحوالة صحيحة، وقد شرط فيها سلامة ذمّته، فله شرطه. أمّا جماهير الشّافعيّة فيرون أنّ شرط الرّجوع عند العجز شرط مناف لمقتضى العقد فيبطل، ثمّ الأصحّ عندهم أنّه يبطل العقد نفسه أيضاً. 157 - يعتبر الحنفيّة التّوى نهايةً للحوالة على التّفصيل الّذي سيأتي. يخالفهم أئمّة المذاهب الثّلاثة الأخرى وغيرهم: فالشّافعيّة واللّيث وأبو عبيد على أنّ التّوى لا يعتبر نهايةً للحوالة، وبالتّالي لا رجوع به للمحال على المحيل. وكذلك يقول أحمد إلاّ أنّه استثنى في رواية عنه ما إذا كان المحال عليه مفلساً عند الحوالة، ولم يعلم المحال بإفلاسه، فإنّه حينئذ يكون له الرّجوع على المحيل - إلاّ أن يثبت علم المحال بذلك ورضاه به - وهذه الرّواية عن أحمد تتّفق مع مذهب المالكيّة الّذين يقولون أيضًا بأنّ اشتراط الرّجوع في حالة التّوى مقبول ويعمل به، ولكن بشريطة علم المحيل بهذا الإفلاس. وألحقوا به علمه بجحده كما بيّنّاه آنفاً (ف / 155). 158 - وبهذا يتحرّر: أنّ المذاهب في الرّجوع بالتّوى ثلاثة: - 1 - إطلاق القول به: على خلاف في تحديد أسبابه أو إطلاقها. وهذا هو مذهب الحنفيّة " ما عدا زفر "، ورأي بعض السّلف. - 2 - إطلاق رفضه: وهذا هو مذهب جماهير الشّافعيّة. - 3 - وجوب استحقاق الرّجوع إذا شرط، وإلاّ فلا رجوع إلاّ في حالات الغرور - وعليه المالكيّة. أدلّة الحنفيّة: يستدلّ الحنفيّة لقولهم بالرّجوع في حالة التّوى بما يلي: - أ - إجماع الصّحابة: 159 - فقد جاء عن عثمان - رضي الله عنه - في المحال عليه إذا مات مفلساً أنّه يعود الدّين إلى ذمّة المحيل، وقال: «ليس على مال امرئ مسلم توًى» ولم ينقل عن أحد من الصّحابة خلافه، فكان إجماعًا. وجاء عن شريح مثله. - ب - المعقول: 160 - قالوا: لأنّ المقصود بالحوالة أن ينوب الثّاني عن الأوّل في الإيفاء، لا مجرّد نقل الوجوب من ذمّة إلى ذمّة، إذ الذّمم لا تتفاوت في أصل الوجوب، هذا هو ما يتعارفه النّاس، وما تعارفوه فهو كالمشروط. وعلى هذا، فبراءة المحيل لم تثبت مطلقةً، بل مشروطةً بعوض. فإذا لم يسلّم هذا العوض عاد الدّين إلى ذمّة المحيل فشغلها كما كان. نظيره أن يهلك المبيع قبل قبضه، أو يخرج مستحقًّا، أو يتبيّن به عيب، فإنّ المشتري يرجع بالثّمن، إذ العرف قاض بأنّه ما بذل الثّمن إلاّ ليحصل على مبيع سليم، فإذا فات هذا المقصود الّذي هو في قوّة المشروط، عاد بالثّمن الّذي بذله. هذا قياس لا شكّ في جلائه. أدلّة الشّافعيّة وموافقيهم: ويستدلّ الشّافعيّة وموافقوهم على عدم الرّجوع في حالة التّوى مطلقاً بالأدلّة التّالية: أ - السّنّة المطهّرة: 161 - فقد جاء في قوله صلوات اللّه عليه عند الطّبرانيّ في الأوسط، وأصله عند الجماعة «من أحيل على مليء فليتبع» هذا من غير فصل بين توىً وغيره، ولا يوجد مخصّص لهذا العموم. - ب - آثار الصّحابة: 162 - من ذلك: " أنّ حزناً جدّ سعيد بن المسيّب كان له على عليّ رضي الله عنه دين فأحاله به، فمات المحال عليه فأخبره فقال: اخترت علينا، أبعدك اللّه " وروى ابن حزم، عن سعيد بن المسيّب: أنّه كان لأبيه المسيّب دين على إنسان ألفا درهم، ولرجل آخر على عليّ بن أبي طالب ألفا درهم: فقال ذلك الرّجل للمسيّب: أنا أحيلك على عليّ، وأحلني أنت على فلان، ففعلا. فانتصف المسيّب من عليّ، وتلف مال الّذي أحاله المسيّب عليه. فأخبر المسيّب بذلك عليّ بن أبي طالب، فقال له عليّ: أبعده اللّه. أدلّة المالكيّة وموافقيهم: 162 م - المالكيّة في استدلالهم على عدم الرّجوع في التّوى إلاّ في حالتي الشّرط أو الغرور يقولون: إنّ أدلّة الشّافعيّة في رفض الرّجوع مطلقاً مخصّصة بهذين الدّليلين التّاليين وليست على إطلاقها: - أ - المحال على مفلس يجهل إفلاسه كمشتري السّلعة يجهل عيبها، إذ الإفلاس عيب في المحال عليه، فيكون له الرّجوع، كما أنّ للمشتري الرّدّ بالعيب. وهكذا يقول الحنابلة - ب - المحيل الّذي يكتم إفلاس المحال عليه كالبائع يدلّس عيب المبيع، فيجب أن تقع المسئوليّة على المدلّس، ولا تقتصر على المفلس. هكذا يقول المالكيّة، وإنّما خصّوا بالذّكر في قياسهم حالة التّدليس من حالات الرّدّ بعيب المبيع، مع أنّه عامّ سواء أدلّس البائع أم لم يدلّس، لأنّ للذّمم خفاءً وسريّةً لا تعلم، فصارت أشبه بالمبيع الّذي يجهل باطنه، وهذا لا ردّ بعيبه عندهم إلاّ عن تدليس.
163 - للتّوى - في الحوالة بنوعيها المطلقة والمقيّدة - سببان عند أبي حنيفة، وثلاثة أسباب عند الصّاحبين. وتنفرد الحوالة المقيّدة بسبب مستقلّ، فيكون مجموع الأسباب أربعةً في الجملة. أوّلاً: موت المحال عليه مفلسًا قبل الأداء. ثانياً: جحد المحال عليه الحوالة ولا بيّنة. ثالثاً: تفليس القاضي للمحال عليه. رابعاً: تلف الأمانة الّتي قيّدت بها الحوالة، أو ضياعها.
أوّلاً: موت المحال عليه مفلساً قبل الأداء 164 - وذلك بأن لا يترك ما يقضي منه دين المحال، ولا كفيلًا به. أمّا إذا ترك ما يقضى منه دين المحال - مهما كان ما تركه، ولو ديناً في ذمّة أو أكثر - فإنّه لا يتحقّق إفلاسه، ولا يمكن حينئذ الرّجوع على المحيل، مهما تكن الأسباب والمعاذير. حتّى إنّه لو مات المحال عليه إلى أجل مليئاً وله دين سيفضي انتظار قسمته إلى تأخير أداء الحوالة لما بعد الأجل لا يكون للطّالب أن يتعلّل بذلك ليرجع على المحيل، لبقاء الحوالة، إذ التّركة خلف عن صاحبها في المقصود هنا، وهو قضاء الدّين. فإن كان ما تركه المحال عليه لا يفي إلاّ ببعض دين المحال، فلا إفلاس ولا توى إلاّ بالنّسبة إلى باقيه. ولذا يقولون: إذا مات المحال عليه مديوناً، قسم ماله بين الغرماء وبين المحال بالحصص، وما بقي له يرجع به على المحيل. 165 - كذلك إذا ترك كفيلًا بدين الحوالة، لا يعدّ مفلساً بالنّسبة إليه - لأنّ الكفيل قائم مقام الأصيل، وخلف عنه - إلاّ أن يموت الكفيل أيضاً مفلساً، أو يبرّئه المحال - لأنّ هذا الإبراء كالفسخ للكفالة معنىً - وهذا وهو الّذي عناه صاحب الخلاصة، حين قال: إنّ المحال لو أبرأ الكفيل بعد موت المحال عليه، فله أن يرجع بدينه على المحيل. هذا، وفي حالة الكفالة ببعض الدّين يكون التّوى بالنّسبة إلى باقيه لا غير. 166 - ولهذا وذاك يقول في " البزّازيّة ": أخذ المحال من المحال عليه بالمال كفيلاً، ثمّ مات المحال عليه مفلسًا، لا يعود الدّين إلى ذمّة المحيل، سواء كفل بأمره أو بغير أمره، وسواء أكانت الكفالة حالّةً أم مؤجّلةً، أم كفل حالّاً ثمّ أجّله المكفول له. وإن لم يكن به - أي بالمال - كفيل، ولكن تبرّع رجل ورهن به رهناً، ثمّ مات المحال عليه مفلساً، عاد الدّين إلى ذمّة المحيل، ولو كان المحال مسلّطاً على بيع الرّهن فباعه، ولم يقبض الثّمن حتّى مات المحال عليه مفلساً، بطلت الحوالة، والثّمن لصاحب الرّهن.
ثانياً: جحد المحال عليه الحوالة، ولا بيّنة 167 - إذا جحد المحال عليه الحوالة، ولا بيّنة عليها، فقد تحقّق التّوى بهذا السّبب. فلا يمكن أن يقبل هذا الجحد مع وجود بيّنة على الحوالة، سواء أقامها المحال أم المحيل. فإذا لم تكن لأحدهما بيّنة على الحوالة يحلف المحال عليه اليمين: أن لا حوالة عليه، وفقاً للقاعدة القائلة: " البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر ". فإذا قبل من المحال عليه جحده هذا وقضى بمنع المحال عنه فقد تحقّق عجز المحال عن الوصول إلى الحقّ، أي أنّه توى. ثمّ إذا أراد المحال الرّجوع على المحيل بحجّة التّوى بسبب هذا الجحد لا يثبت الجحد بمجرّد دعوى المحال لأجل الرّجوع على المحيل، كما هو واضح، بل لا بدّ من ثبوت الجحد بالبيّنة. على أنّ هذه البيّنة لا يمكن القضاء بمقتضاها إلاّ بحضور المحال عليه، إذ لا يمكن القضاء على غائب، لكن المحال يكفي مئونة هذا القضاء إذا صدّقه المحيل في دعوى الجحد، فيستحقّ الرّجوع عليه حينئذ، ولو لم تكن له بيّنة.
ثالثاً: تفليس القاضي المحال عليه 168 - ومعناه أن يحكم القاضي بإفلاسه بعد أن يظهر له حاله. وليس حتماً أن يكون ظهور الحال الّذي يبني عليه القاضي حكمه بالإفلاس عن شهادة شهود - وإن كان هذا احتياطاً حسناً - فإنّها شهادة نفي ليست بحجّة، بل يكفيه اجتهاد الرّأي. وفي موضوعنا هذا لا يكون التّفليس إلاّ بعد الحبس. 169 - ومن فروع هذا الأصل المتنازع فيه، وهو إمكان تحقّق التّوى بالتّفليس، ما إذا مات المحال عليه، ولم يترك إلاّ دينًا على مفلس، فعند أبي حنيفة: لا توى في هذه الحالة، وعند الصّاحبين: بل يحصل التّوى بتفليس القاضي لهذا المدين.
رابعاً: تلف الأمانة الّتي قيّدت بها الحوالة أو ضياعها 170 - إذا أصاب الوديعة مثلاً تلف أو ضياع ولو بمجرّد دعوى الوديع - كما لو ادّعى ضياع الدّنانير المودعة عنده - تكون النّتيجة عند الحنفيّة انفساخ الحوالة الّتي قيّدت بها، وبراءة المحال عليه من المطالبة بمقتضاها، وإذن يعود الدّين إلى ذمّة المحيل كما كان بادئ ذي بدء، ذلك أنّ المحال عليه لم يلتزم التّسليم مطلقاً، بل مقيّداً بشيء معيّن، وقد ذهب ذلك الشّيء المعيّن، فلم تبق عليه مطالبة بشيء ما. بخلاف العين المضمونة - كالمغصوب - فإنّ الحوالة المقيّدة بها لا تنفسخ بفواتها، لأنّها تفوت - إن فاتت - إلى خلف، من مثل أو قيمة، فتتعلّق الحوالة بهذا الخلف، فإن فاتت لا إلى خلف بأن ظهرت مستحقّةً - بطلت الحوالة من أصلها، كما سبق إيضاحه. (ر: ف /144).
171 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه متى تحقّق التّوى في دين الحوالة وثبت بأحد أسبابه المتقدّمة ترتّب عليه أثران: أوّلاً: انتهاء الحوالة، فتنتهي بانتهائها أحكامها. ثانياً: رجوع المحال على المحيل بدينه: لأنّ براءة المحيل من هذا الدّين كانت مشروطةً بسلامة عاقبة الحوالة، أي باستيفاء الحقّ من المحلّ الثّاني، فلمّا انتفت الشّريطة انتفى المشروط، وعاد الدّين إلى ذمّة المحيل كما كان. وإذن تتوجّه عليه للمحال جميع حقوق الدّائنين تجاه مدينهم، كالمطالبة والمقاضاة. نعم لا رجوع على المحال عليه إذا هو أحال الطّالب على المحال نفسه، فتوي المال عنده - وإن كان يصدق عليه (أي على المحال عليه) حينئذ أنّه محلّ توي مال حوالته -. وفي عقد الحوالة إذا اشترطت براءة الأصيل صراحةً - رغم أنّ مقتضاها هذه البراءة دون شرط - هل يرجع المحال على المحيل في حالة التّوى؟ إنّ مقتضى كونها حوالةً أن تثبت أحكام الحوالة، ومن جملتها الرّجوع على المحيل بسبب التّوى، ومقتضى شرط البراءة صراحةً عدم هذا الرّجوع، لكنّهم نصّوا على ثبوت حقّ الرّجوع بالتّوى هذه الحالة. وهم يختلفون في كيفيّة عود الدّين إلى ذمّة المحيل حينئذ: - أ - فمن قائل إنّ ذلك يكون طريق الفسخ: أي أنّ المحال هو الّذي يفسخ الحوالة متى تحقّق سبب من أسباب التّوى، ومن ثمّ يعاد الدّين على المحيل، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبًا، لفوات وصف السّلامة المشروط عرفًا في الموضعين. - ب- ومن قائل: بل عن طريق الانفساخ التّلقائيّ: دون حاجة إلى تدخّل المحال، نظير البيع إذا هلك المبيع قبل قبضه، فإنّه ينفسخ دون تدخّل من أحد، لفوات وصف السّلامة، ويعود حقّ المشتري في الثّمن، فكذلك هنا - بنفس العلّة - تنفسخ الحوالة تلقائيّاً عند التّوى، ويعود الدّين إلى ذمّة المحيل. - ج - ومن قائل: إن كان السّبب هو الجحود فالطّريق هو الفسخ، وإن كان هو الموت عن إفلاس فالطّريق هو الانفساخ. ولا يخفى ما يترتّب على هذا الاختلاف من آثار عمليّة.
|