الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الخلوّ لغةً مصدر خلا، يقال خلا المكان أو الإناء خلوّاً وخلاءً إذا فرغ ممّا به، وخلا المكان من أهله وعن أهله، وخلا فلان من العيب: برئ منه. وخلا بصاحبه خَلواً، وخلوةً وخلوّاً وخلاءً انفرد به في خلوة، وأخلى له الشّيء: فرغ له عنه، وأخلى المكان والإناء وغيرهما: جعله خالياً. والخلوّ في الاصطلاح يكون بمعنيين: الأوّل: الخلوّ بمعنى الانفراد يقال: خلوت بنفسي أو خلوت بفلان والخلوّ أيضاً: الانفراد بالزّوجة، بأن يغلق الرّجل الباب على زوجته وينفرد بها. وأكثر ما يسمّى هذا النّوع خلوةً، ولذا تنظر أحكامه تحت عنوان: (خلوة). والثّاني: وليس معروفاً في كتب اللّغة، ولكن يوجد بهذا المعنى في كتب متأخّري الفقهاء، فإنّهم يستعملونه بمعنى المنفعة الّتي يملكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه إلى النّاظر لتعمير الوقف إذا لم يوجد ما يعمّر به، على أن يكون له جزء من منفعة الوقف، معلوم بالنّسبة كنصف أو ثلث، ويؤدّي الأجرة لحظّ المستحقّين عن الجزء الباقي من المنفعة وينشأ ذلك بطرق مختلفة سيأتي بيان بعضها. وعرّفه الزّرقانيّ بتعريف أعمّ فقال: هو اسم لما يملكه دافع الدّراهم من المنفعة الّتي دفع في مقابلتها الدّراهم. وأطلق الخلوّ أيضاً على حقّ مستأجر الأرض الأميريّة في التّمسّك بها إن كان له فيها أثر من غراس أو بناء أو كبس بالتّراب على أن يؤدّي ما عليها من الحقوق لبيت المال، وهذا النّوع الثّاني سمّاه بعض متأخّري المالكيّة خلوّاً، وفي أكثر كلام الشّيخ عليش قال: هو ملحق بالخلوّ، وقال في موضع: يكون خلوّاً. ووقع في بعض كلامه إطلاق الخلوّ على نفس البناء والغرس ونحوهما، الّذي يقيمه من بيده عمار وقف أو أرض أميريّة. وفي كلام الدّسوقيّ مثل ذلك. ويكون الخلوّ في العقارات المملوكة أيضاً. ولعلّ أصل استعمال لفظ الخلوّ بهذا الاصطلاح أنّه أطلق أوّلاً على خلوّ العقار أي إفراغه والتّخلّي عنه لغير من هو بيده. وأطلق على البدل النّقديّ الّذي يأخذه مالك هذا الحقّ مقابل التّخلّي عنه، ثمّ أطلق على المنفعة المتخلّى عنها نفسها. وقد وقع بهذه المعاني كلّها في كلام الشّيخ عليش. وقد ذكر البنانيّ في حاشيته على شرح الزّرقانيّ أنّ الخلوّ في الأوقاف سمّاه شيوخ المغاربة في فاس بالجلسة.
أ - الحكر: 2 - الحكر بفتح الحاء قال في اللّسان هو ادّخار الطّعام للتّربّص. وقال ابن سيده: الاحتكار جمع الطّعام ونحوه ممّا يؤكل واحتباسه انتظار وقت الغلاء به. والاحتكار أيضاً، والاستحكار عقد إجارة يقصد بها استبقاء الأرض مقرّرةً للبناء والغرس أو أحدهما. أمّا الحِكر بكسر الحاء فلم نجده في معاجم اللّغة القديمة، وفي المعجم الوسيط هو العقار المحبوس، ويرد في كلام متأخّري الفقهاء بمعنى الأجرة المقرّرة على عقار الوقف ونحوه تؤخذ ممّن له فيه بناء أو غراس، وإذا انتقل العقار من يد إلى يد انتقل الحكر معه يدفع لحظّ مستحقّي الوقف. قال الشّيخ عليش: من استولى على الخلوّ يكون عليه لجهة الوقف أجرةً للّذي يئول إليه الوقف يسمّى عندنا بمصر حكراً لئلاّ يذهب الوقف باطلاً، ولا يصحّ الاحتكار إلاّ إذا كان بأجرة المثل ولا تبقى على حال واحدة بل تزيد الأجرة وتنقص باختلاف الزّمان. ب - الفراغ والإفراغ: 3 - يظهر من استعمال الفقهاء لهذين اللّفظين أنّ المراد بهما التّنازل عن حقّ من مثل وظيفة لها راتب من وقف ونحوه. أو التّنازل عن الخلوّ من مالكه لغيره بعوض، فهو بيع للمنفعة المذكورة، إلاّ أنّه خصّ باسم الإفراغ تمييزًا له عن البيع الّذي ينصرف عنه الإطلاق إلى بيع الرّقبة، ولعلّه إنّما سمّي فراغاً لأنّ مالكه لا يملك رقبة الأرض بل يملك حقّ التّمسّك بالعقار أو بعض المنفعة. وقد وقع بهذا المعنى في كلام الشّيخ عليش. ووجه التّسمية بذلك أنّ الفراغ الخلاء، والإفراغ الإخلاء، فالمتنازل يفرّغ المحلّ من حقّه ليكون الحقّ لغيره. ج - الجدك أو الكدك: 4 - أ - أكثر ما يطلق على ما يضعه في الحانوت مستأجر من الأعيان المملوكة له المتّصلة بمبنى الحانوت اتّصال قرار، أي " وضع لا ليفصل " كالبناء، وسمّي هذا النّوع في بعض الفتاوى بالسّكنى. ب - ويطلق على ما يوضع في الحانوت متّصلاً لا على سبيل القرار، وذلك كالرّفوف الّتي تركّب في الحانوت لوضع عدّة الحلّاق مثلاً فإنّها متّصلة لا على وجه القرار. ت - ويطلق على المنفعة المقابلة للدّراهم الّتي يدفعها صاحبها إلى المالك أو ناظر الوقف لتستعمل في مرمّة الوقف أو بناء الأرض الموقوفة عند عدم وجود ما يرمّ به أو يبنى، ويشترط دافعها أن تكون له حقّ القرار في المحلّ المستأجر وجزء من المنفعة وهي الّتي سبق تسميتها بالخلوّ. ث - ويطلق على الأعيان الّتي توضع للاستعمال في الحانوت دون اتّصال أصلاً كالبكارج والفناجين بالنّسبة للمقاهي، والفوط بالنّسبة للحمّام. والفرق بين الجدك وبين الخلوّ، أنّ صاحب الخلوّ يملك جزءاً من منفعة الوقف ولا يملك الأعيان الّتي أقيمت في حوانيت الوقف بمال المستأجر فإنّها قد أقيمت فيه على أنّها وقف، أمّا الجدك فهو أعيان مملوكة لمستأجر الحانوت. د - الكردار: 5 - هو ما يحدثه المزارع والمستأجر في الأراضي الموقوفة من بناء أو غراس أو كبس بالتّراب بإذن الواقف أو النّاظر فتبقى في يده والمراد بكبس التّراب ما ينقله من التّراب إلى تلك الأرض لإصلاحها إذا أتى به من خارجها فالكردار أعيان مملوكة للمستأجر في الأرض الزّراعيّة. هـ - المُرصَد: 6 - هو أن يستأجر رجل عقار الوقف من دار أو حانوت مثلاً ويأذن له المتولّي بعمارته أو مرمّته الضّروريّة من ماله عند عدم مال حاصل في الوقف، وعدم من يستأجره بأجرة معجّلة يمكن تعميره أو مرمّته بها، فيعمّره المستأجر من ماله على قصد الرّجوع بذلك في مال الوقف عند حصوله أو اقتطاعه من الأجر في كلّ سنة أو شهر مثلاً، وهذه العمارة ليست ملكًا للمستأجر بل هي وقف، فلا تباع ولا يصحّ بيع المستأجر لذلك الدّين، لأنّ الدّين لا يجوز بيعه. ولكن إذا أراد المستأجر الخروج من الدّكّان يجوز له قبض دينه من المستأجر الجديد ويصير ذلك له كما كان للمستأجر السّابق. والمرصد هو ذلك الدّين المستقرّ على الوقف بهذه الصّفة. فالفرق بينه وبين الخلوّ أنّ صاحب الخلوّ يكون حقّه ملكاً في منفعة الوقف، وصاحب المرصد يكون له دين معلوم على الوقف. و - مشدّ المسكة: 7 - مشدّ المسكة اصطلاح للحنفيّة المتأخّرين يقصدون به استحقاق الزّراعة في أرض الغير، وهو من المسكة لغةً وهي ما يتمسّك به، قال ابن عابدين: فكأنّ المسلم للأرض " أي الأرض المملوكة لبيت المال غالباً " المأذون له من صاحبها في الحرث صار له مسكة يتمسّك بها في الحرث فيها. قال: وحكمها أنّها لا تقوم، فلا تملك ولا تباع ولا تورث.
8 - قال العدويّ من المالكيّة: اعلم أنّ الخلوّ من ملك المنفعة لا من ملك الانتفاع إذ مالك الانتفاع ينتفع بنفسه ولا يؤجّر ولا يهب ولا يعير. ومالك المنفعة له تلك الثّلاثة مع انتفاعه بنفسه. قال: والفرق بينهما أنّ مالك الانتفاع يقصد ذاته مع وصفه، كإمام وخطيب ومدرّس وقف عليه بالوصف المذكور، بخلاف مالك المنفعة. ثمّ إنّ من ملك الانتفاع وأراد أن ينتفع غيره به، فإنّه يسقط حقّه منه ويأخذه الغير على أنّه أهله حيث كان من أهله، والخلوّ من ملك المنفعة فلذلك يورث. وصرّح البهوتيّ من الحنابلة كذلك بأنّ الخلوّ المشترى بالمال يكون من باب ملك المنفعة.
9 - تنقسم العقارات من حيث اختلاف أحكام الخلوّ فيها إلى ثلاثة أقسام: أ - عقارات الأوقاف. ب - الأراضي الأميريّة - أراضي بيت المال -. ج - العقارات المملوكة ملكاً خاصّاً. ويقسّم البحث إلى ثلاثة أقسام تبعاً لذلك.
أحوال نشوء الخلوّ في عقارات الأوقاف: ينشأ الخلوّ في عقارات الأوقاف في أحوال منها: 10 - الحالة الأولى: أن ينشأ باتّفاق بين الواقف أو النّاظر وبين المستأجر. وهذه الحال لم نجد في كلام الشّافعيّة تعرّضاً لها، وقد قال بها متأخّرو المالكيّة وبعض متأخّري الحنابلة ونقلها عن المالكيّة متأخّرو الحنفيّة. قال العدويّ من المالكيّة: اعلم أنّ الخلوّ يصوّر بصور منها: 11 - الصّورة الأولى: أن يكون الوقف آيلاً للخراب، فيؤجّره ناظر الوقف لمن يعمّره بحيث يصير الحانوت مثلاً يكرى بثلاثين ديناراً في السّنة، ويجعل عليه لجهة الوصف خمسة عشر، فتصير المنفعة مشتركةً بين المكتري وبين جهة الوقف. وما قابل الدّراهم المصروفة في التّعمير هو الخلوّ. قال: وشرط جوازه أن لا يوجد للوقف ريع يعمّر به الوقف. 12 - الصّورة الثّانية: أن يكون لمسجد مثلاً حوانيت موقوفة عليه، واحتاج المسجد للتّكميل أو العمارة، ولا يكون الرّيع كافياً للتّكميل أو العمارة، فيعمد النّاظر إلى مكتري الحوانيت فيأخذ منه قدراً من المال يعمّر به المسجد، وينقص عنه من أجرة الحوانيت مقابل ذلك، بأن تكون الأجرة في الأصل ثلاثين ديناراً في كلّ سنة، فيجعلها خمسة عشر فقط في كلّ سنة، وتكون منفعة الحوانيت المذكورة شركةً بين ذلك المكتري وبين جهة الوقف، وما كان منها لذلك المكتري هو الخلوّ، والشّركة بحسب ما يتّفق عليه صاحب الخلوّ وناظر الوقف على وجه المصلحة. 13 - الصّورة الثّالثة: أن تكون أرض موقوفة ولم يكن هناك ريع تعمّر به وتعطّلت بالكلّيّة على ما ذكره الدّردير فيستأجرها من النّاظر ويبني فيها أي للوقف، داراً مثلاً على أنّ عليه لجهة الوقف في كلّ شهر ثلاثين درهماً، ولكنّ الدّار بعد بنائها تكرى بستّين درهماً. فالمنفعة الّتي تقابل الثّلاثين الأخرى يقال لها الخلوّ. قال الشّيخ عليش في الصّورة الثّالثة: هذا الّذي أفتى به علماؤنا ووقع العمل به من غير نزاع. قال: ويجب تقييد هذا بما إذا بيّن الملكيّة " أي ثبت بالبيّنة على أنّه ينوي أنّه يملك ما يقابل البناء أو الغرس وهو حقّ الخلوّ وأنّه لم يبنه متبرّعاً به للوقف " قال: أمّا إن بيّن التّحبيس، أو لم يبيّن شيئاً فالبناء والغرس وقف على المشهور، لا حقّ فيهما لورثة الباني والغارس، لأنّ المحبس عليه إنّما بنى للوقف، وملكه فهو محوز بحوز الأصل. وهذه الصّورة هي في حال بناء الموقوف عليه ونحوه أو غرسه في الأرض الموقوفة، أمّا لو بنى الأجنبيّ في الوقف شيئاً فإنّه يكون ملكاً، والغرس كالبناء، وإذا كان ملكاً فله نقضه أو قيمته منقوضاً إن كان في الوقف ما يدفع منه ذلك، هذا إن كان ما بناه لا يحتاج إليه الوقف، وإلاّ فيوفّى ثمنه من الغلّة قطعاً، بمنزلة ما إذا بناه النّاظر. 14 - الصّورة الرّابعة: أن يريد الواقف بناء محلّات للوقف، فيأتي له أشخاص يدفعون له دراهم على أن يكون لكلّ شخص محلّ من تلك المحلّات يسكنها بأجرة معلومة يدفعها كلّ شهر، فكأنّ الواقف باعهم حصّةً من تلك المحلّات قبل التّحبيس وحبس الباقي، فليس للواقف تصرّف في تلك المحلّات، لكن له الأجرة المعلومة كلّ شهر أو كلّ سنة، وكأنّ دافع الدّراهم شريك للواقف بتلك الحصّة. وقال خير الدّين الرّمليّ الحنفيّ في مثل هذه الصّورة الرّابعة: " ربّما بفعله تكثر الأوقاف، وممّا بلغني أنّ بعض الملوك عمّر مثل ذلك بأموال التّجّار، ولم يصرف عليه من ماله الدّرهم والدّينار، بل فاز بقربة الوقف، وفاز التّجّار بالمنفعة، وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم: يحبّ ما خفّف على أمّته والدّين يسر ولا مفسدة في ذلك في الدّين ". ا. هـ 15 - صورة خامسة: تضاف إلى الصّور الّتي ذكرها العدويّ: وهي أن يشتري حقّ الخلوّ شراءً من النّاظر ولو لمصلحة الموقوف عليهم من غير أن يكون النّفع يحتاج إليه الوقف نفسه، فظاهر كلام العدويّ نفسه وكلام غيره عدم صحّة ذلك في الوقف كما يأتي في شروط صحّة الخلوّ. ووجهه واللّه أعلم أنّه يكون كبيع جزء من العقار الموقوف، إذ أنّ قيمته إذا كان محمّلاً بحقّ الخلوّ تنقص عن قيمته إذا لم يكن محمّلاً بذلك الحقّ، وجاز في الصّور الأربع السّابقة لأنّه يكون قد نقص من الوقف ليعيده فيه مع حاجة الوقف إلى ذلك. ولذلك فإنّ الحنابلة لمّا أجازوا بيع الوقف إذا خرب وتعطّل، قال البهوتيّ: الخلوّات المشهورة ممكن تخريجها عندنا من هذه المسألة - أي مسألة بيع الوقف الخرب - مع ما تقدّم من جواز بيع المنفعة مفردةً عن العين كعلوّ بيت يبنى عليه، إذ العوض فيها مبذول في مقابلة جزء من المنفعة، فإذا كانت أجرة الدّار عشرين مثلاً، ودفع لجهة الوقف شيئاً معلوماً على أن يؤخذ منه عشرة فقط فقد اشترى نصف المنفعة وبقي للوقف نصفها، فيجوز ذلك في الحالة الّتي يجوز فيها بيع الوقف، بل هذا أولى، لأنّ فيه بقاء عين الوقف في الجملة. ونقل هذا صاحب مطالب أولي النّهى ولم يعترض عليه. وواضح أنّ البهوتيّ لا يرى جواز إنشاء الخلوّ بمال على الإطلاق، بل حيث يجوز بيع الوقف لإصلاح باقيه، وحاصل شروط ذلك عند الحنابلة أنّه يصحّ بيع بعض الوقف لإصلاح باقيه إذا لم تمكن إجارته وأن يتّحد الواقف والجهة إن كانا عينين فتباع إحداهما لإصلاح الأخرى، أو كان عيناً واحدةً يمكن بيع بعضها لإصلاح باقيها. وكذلك صورة ما لو استقرّ في عقار الوقف المدّة الطّويلة لا يعطيه ذلك حقّ الخلوّ، ولا يلزم النّاظر أن يؤجّره له بل له أن يخرجه إن شاء متى انتهت إجارته، لكن إن كان للمستأجر بناء ونحوه ممّا يسمّى الجدك أو الكردار في الأرض فإذا لم يدفع أجرة المثل يؤمر برفعه وإن كان موضوعاً بإذن الواقف أو إذن أحد النّظّار. ولو تلقّى المستأجر العقار عن مستأجر قبله بمال فلا ينشأ عن ذلك حقّ الخلوّ. قال ابن عابدين: أمّا ما يتمسّك به صاحب الخلوّ من أنّه اشترى خلوّه بمال كثير وأنّه بهذا الاعتبار - ينبغي أن - تصير أجرة الوقف شيئاً قليلاً، فهو تمسّك باطل، لأنّ ما أخذه منه صاحب الخلوّ الأوّل لم يحصل منه نفع للوقف، فيكون الدّافع هو المضيّع لماله، فكيف يحلّ له ظلم الوقف، بل يجب عليه دفع أجرة مثله.
16 - الخلوّ الّذي ينشأ للمستأجر مقابل مال يدفعه إلى ناظر الوقف اعتبره الحنفيّة نوعاً من بيع الحقوق المجرّدة، والحقوق المجرّدة كحقّ الشّفعة والوظائف في الأوقاف من إمامة وخطابة وتدريس في جواز النّزول عنها بمال قولان عند الحنفيّة مبنيّان على اعتبار العرف الخاصّ أو عدم اعتباره. فمن قال بعدم اعتباره، وعليه المذهب عند الحنفيّة، قال لا يجوز بيع الحقوق المجرّدة ومنها الخلوّ. قال الشّهيد: لا نأخذ باستحسان مشايخ بلخ بل نأخذ بقول أصحابنا المتقدّمين لأنّ التّعامل في بلد لا يدلّ على الجواز ما لم يكن على الاستمرار من الصّدر الأوّل، فيكون ذلك دليلاً على تقرير النّبيّ صلى الله عليه وسلم إيّاهم على ذلك فيكون شرعاً منه، فإذا لم يكن كذلك لا يكون فعلهم حجّةً إلاّ إذا كان من النّاس كافّةً في البلدان فيكون إجماعاً. وليس كذلك شأن الخلوّ. ا. هـ. قال الشرنبلالي وأقرّه ابن عابدين: ولأنّه يلزم من عدم إخراج صاحب الحانوت لصاحب الخلوّ حجر الحرّ المكلّف عن ملكه وإتلاف ماله. وفي منع النّاظر من إخراجه تفويت نفع الوقف وتعطيل ما شرطه الواقف من إقامة شعائر مسجد ونحوه. وقال الحصكفيّ: لكن أفتى كثيرون باعتبار العرف الخاصّ، وبناءً عليه يفتى بجواز النّزول عن الوظائف بمال، وبلزوم خلوّ الحوانيت، فيصير الخلوّ في الحانوت حقّاً له، فليس لربّ الحانوت إخراجه منها ولا إجارته لغيره، قال: وقد وقع في حوانيت الجملون في الغوريّة أنّ السّلطان الغوريّ لمّا بناها أسكنها للتّجّار بالخلوّ، وجعل لكلّ حانوت قدراً أخذه منهم، وكتب ذلك بمكتوب الوقف. ونازع بعضهم في بناء الخلاف في ذلك على القولين في العرف الخاصّ. وقد مال الحمويّ إلى عدم إثبات الخلوّ وعدم صحّة بيعه ونقله عن شيخه وأنّه ألّف في ذلك رسالةً سمّاها " مفيدة الحسنى في منع ظنّ الخلوّ بالسّكنى ". قال ابن عابدين: وممّن أفتى بلزوم الخلوّ الّذي يكون مقابل مال يدفعه للمالك أو متولّي الوقف العلّامة المحقّق عبد الرّحمن العماديّ قال: فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره ما لم يدفع له المبلغ المرقوم، فيفتى بجواز ذلك للضّرورة قياساً على بيع الوفاء الّذي تعارفه المتأخّرون. ا. هـ وفي الفتاوى الخيريّة للرّمليّ الحنفيّ ما يفيد أنّ الخلاف في هذه المسألة معتبر يعني خلاف الّذي أفتى به من المالكيّة، وهو الشّيخ ناصر اللّقانيّ ومن تابعه كما يأتي بيانه، قال: فيقع اليقين بارتفاع الخلاف بالحكم - أي حكم القاضي - حيث استوفى شرائطه من مالكيّ يراه، أو غيره، فيصحّ الحكم ويرتفع الخلاف، خصوصاً فيما للنّاس إليه ضرورة ولا سيّما في المدن المشهورة كمصر ومدينة الملك - يعني استانبول - فإنّهم يتعاطونه ولهم فيه نفع كلّيّ يضرّ بهم نقصه وإعدامه. هذا ما ذكره الحنفيّة. أمّا المالكيّة فإنّ أوّل فتيا منقولة عندهم هي ما أفتى به الشّيخ ناصر الدّين اللّقانيّ في إنشاء الخلوّ وتملّكه وجريان الإرث فيه، ونصّها ما أورده الشّيخ عليش كما يلي: سئل العلّامة النّاصر اللّقانيّ بما نصّه: ما تقول السّادة العلماء أئمّة الدّين رضي الله عنهم أجمعين في خلوّات الحوانيت الّتي صارت عرفًا بين النّاس في هذه البلدة وغيرها، وبذلت النّاس في ذلك مالاً كثيراً حتّى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهباً فهل إذا مات شخص وله وارث شرعيّ يستحقّ خلوّ حانوته عملاً بما عليه النّاس أم لا، وهل إذا مات من لا وارث له يستحقّ ذلك بيت المال أم لا، وهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلّف ما يفي بدينه يوفّى ذلك من خلوّ حانوته؟ أفتونا مأجورين. فأجاب بما نصّه: الحمد للّه ربّ العالمين: نعم إذا مات شخص وله وارث شرعيّ يستحقّ خلوّ حانوته عملاً بما عليه النّاس، وإذا مات من لا وارث له يستحقّ ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلّف ما يفي بدينه فإنّه يوفّى من خلوّ حانوته. واللّه سبحانه وتعالى أعلم بالصّواب كتبه النّاصر اللّقانيّ المالكيّ حامداً مصلّياً مسلماً. وأوردها الزّرقانيّ ونقل أنّ التّعويل في هذه المسألة على هذه الفتيا. وقال الحمويّ من الحنفيّة: ليس فيها نصّ عن مالك وأصحابه، والتّعويل فيها على فتوى اللّقانيّ والقبول الّذي حظيت به وجرى عليه العمل. وقال الغرقاويّ من المالكيّة: إنّ فتوى النّاصر اللّقانيّ مخرّجة على النّصوص، وقد أجمع على العمل بها واشتهرت في المشارق والمغارب وانحطّ العمل عليها ووافقه عليها من هو مقدّم عليه كأخيه الشّيخ شمس الدّين محمّد اللّقانيّ
17 - حيث جرى العرف عند إنشاء الخلوّ على استمرار حقّ صاحبه يحمل عليه عند الإطلاق، قال العدويّ: جرى العرف عندنا بمصر أنّ الأحكار مستمرّة للأبد، وإن عيّن فيها وقت الإجارة مدّةً، فهم لا يقصدون خصوص تلك المدّة، والعرف عندنا كالشّرط، فمن احتكر أرضاً مدّةً ومضت فله أن يبقى وليس للمتولّي أمر الوقف إخراجه، نعم إن حصل ما يدلّ على قصد الإخراج بعد المدّة وأنّها ليست على الأبد فإنّه يعمل بذلك. لكن قال الشّيخ عليش: يردّ عليه أنّ ضرب الأجل يصير لا فائدة فيه، إلاّ أن يقال: ضربه في مقابلة المقبوض ومعه تأبيد الحكر، فتكون الدّراهم عجّلت في نظير شيئين: الأجل المضروب، والتّأبيد بالحكر، وينظر في ذلك. وإنّما تصحّ هذه المسألة إن كانت تلك البلد قد جرى فيها ذلك العرف، فيقوم مقام الشّرط، وإلاّ فلا، قال الدّسوقيّ: يجوز استئجار شيء مؤجّر مدّةً تلي مدّة الإجارة الأولى للمستأجر نفسه أو لغيره، ما لم يجر عرف بعدم إيجارها إلاّ للأوّل، كالأحكار بمصر، وإلاّ عمل به، لأنّ العرف كالشّرط، وصورة ذلك إذا استأجر إنسان داراً موقوفةً مدّةً معيّنةً وأذن له النّاظر بالبناء فيها ليكون له خلوّاً وجعل له حكراً كلّ سنة لجهة الوقف فليس للنّاظر أن يؤاجرها لغير مستأجرها مدّة إيجار الأوّل لجريان العرف بأنّه لا يستأجرها إلاّ الأوّل،والعرف كالشّرط، فكأنّه اشترط عليه ذلك في صلب العقد. وقد بيّن الدّسوقيّ أنّ استحقاق مالك الخلوّ في استئجار عقار الوقف لمدّة لاحقة لا يصحّ إلاّ إن كان يدفع من الأجر مثل ما يدفع غيره وإلاّ جاز إيجارها للغير. وقال مثل ذلك ابن عابدين قال: وهو مقيّد أيضاً بما قلناه من أن يدفع أجر المثل، وإلاّ كانت سكناه بمقابلة ما دفعه من الدّراهم عين الرّبا، كما قالوا فيمن دفع للمقرض داراً ليسكنها إلى أن يستوفي قرضه: يلزمه أجرة مثل الدّار. وقد بيّن الزّرقانيّ أنّ الاستمرار في المأجور هو الفائدة في الخلوّ إذ هو الفرق بينه وبين الإجارة المعتادة، قال: " المستأجر مالك المنفعة فما معنى الخلوّ وما فائدته، إلاّ أن يقال في فائدته إنّه ليس لمن له التّصرّف في المنفعة الّتي استأجرها سواء كان مالكًا أو ناظرًا أن يخرجها عنه، وإن كانت الإجارة مشاهرةً، فتأمّله " وفي حاشية البنانيّ أنّ مستند المالكيّة في إثبات حقّ الاستمرار إنّما هو المصلحة قال: وقعت الفتوى من شيوخ فاس المتأخّرين كالشّيخ القصّار، وابن عاشر، وأبي زيد الفاسيّ وعبد القادر الفاسيّ، وأضرابهم بمثل فتوى النّاصر اللّقانيّ وأخيه شمس الدّين جرى العرف بها لما فيها من المصلحة فهي عندهم كراء على التّبقية.
18 - لا يخفى أنّ الوقف إنّما يؤجّر بأجر المثل ولا يجوز أن ينقص عن أجر المثل إلاّ بالقدر الّذي يتغابن النّاس به عادةً، والمشهور عند الحنفيّة والمالكيّة أنّه لا تؤجّر دار الوقف أو دكّانه لأكثر من سنة، وأرض الوقف أكثر من ثلاث سنين، وفي ذلك خلاف وتفصيل ينظر في مباحث الإجارة. قال الحنفيّة: إن زادت أجرة المثل في أثناء المدّة زيادةً معتبرةً وجب فسخ العقد وإجارته بأجر المثل ما لم يقبل المستأجر الزّيادة. أمّا إذا انتهت المدّة فللنّاظر إجارته للمستأجر الأوّل بأجر المثل أو إخراجه عنه وإجارته لغيره بأجر المثل. قال الرّمليّ الحنفيّ: وهي مسألة إجماعيّة " عند الحنفيّة "، وهذا ما لم يكن له في المكان خلوّ صحيح، أو له فيه حقّ القرار كما يأتي فلا يملك إخراجه. فإن كان للمستأجر حقّ الخلوّ بمال دفعه للواقف أو النّاظر لمصلحة الوقف طبقًا للصّور والشّروط المتقدّمة فقد بيّن الدّسوقيّ أنّ استحقاق مالك الخلوّ الاستئجار لمدّة لاحقة لا يصحّ إلاّ إن كان يدفع من الأجر مثل ما يدفع غيره، وإلاّ جاز إيجاره للغير. والمراد مثل إيجار المكان خالياً عن الإضافة الّتي قابلت المال المدفوع إلى الواقف. قال ابن عابدين: لو لم يلزم صاحب الخلوّ أجرة المثل للمستحقّين يلزم ضياع حقّهم. اللّهمّ إلاّ أن يكون ما قبضه المتولّي صرفه في عمارة الوقف حيث تعيّن ذلك طريقاً إلى عمارته ولم يوجد من يستأجره بأجرة المثل مع دفع ذلك المبلغ اللّازم للعمارة. وطريق معرفة أجر المثل أن ننظر إلى ما دفعه صاحب الخلوّ للواقف أو المتولّي على الوجه الّذي ذكرناه وإلى ما ينفقه في مرمّة الدّكّان ونحوها، فإذا كان النّاس يرغبون في دفع جميع ذلك إلى صاحب الخلوّ ومع ذلك يستأجرون الدّكّان بمائة مثلاً فالمائة هي أجرة المثل، ولا ينظر إلى ما دفعه هو لصاحب الخلوّ السّابق من مال كثير طمعاً في أنّ أجرة هذا الدّكّان عشرة مثلاً، لأنّ ما دفعه من مال كثير لم يرجع منه نفع للوقف أصلاً بل هو محض ضرر بالوقف حيث لزم منه استئجار الدّكّان بدون أجرتها بغبن فاحش. وإنّما ينظر إلى ما يعود نفعه للوقف فقط.
19 - قال الأجهوريّ: يشترط لصحّة الخلوّ أن تكون الدّراهم المدفوعة " أي من السّاكن الأوّل " عائدةً على جهة الوقف يصرفها في مصالحه. قال: فما يفعل الآن من أخذ النّاظر الدّراهم ممّن يريد الخلوّ، ويصرفها في مصالح نفسه ويجعل لدافعها خلوّاً في الوقف فهذا الخلوّ غير صحيح ويرجع دافع الدّراهم بها على النّاظر. قال: ومن الشّروط أن لا يكون للوقف ريع يعمّر منه، فإن كان له ريع يعمّر به مثل أوقاف الملوك الكثيرة فيصرف عليها منه، ولا يصحّ فيه خلوّ، ويرجع دافع الدّراهم بها على النّاظر. لأنّه ينزع منه على شرط لم يتمّ، لظهور عدم صحّة خلوّه. ومنها ثبوت الصّرف في منافع الوقف بالوجه الشّرعيّ، فلو صدّقه النّاظر على الصّرف من غير ثبوت، ولا ظهور عمارة إن كانت هي المنفعة، لم يعتبر لأنّ النّاظر لا يقبل قوله في مصرف الوقف.
20 - إذا أنشأ المستأجر خلوّه بمال دفعه إلى ناظر الوقف بشروطه المبيّنة سابقاً صار الخلوّ ملكاً له، وأصبح من حقّه التّصرّف فيه بالبيع، والإجارة، والرّهن، والهبة، والعاريّة، والوصيّة وغير ذلك، وهذا صريح في كلام من ذكر المسألة من المالكيّة. وواضح أنّه إذا باع صاحب الخلوّ خلوّه بعد أن ملكه بالوجه الصّحيح أو وهبه أو أوصى به فلمن صار إليه الخلوّ من التّصرّفات ما كان لمن قبله. وصرّح البهوتيّ من الحنابلة بأنّه يرى أنّ لخلوّات إذا اشتريت بالمال من المالك تكون مملوكةً لمشتريها مشاعاً لأنّه يكون قد اشترى نصف المنفعة مثلاً وعلى هذا لا تصحّ إجارة الخلوّ ويصحّ بيعه وهبته ووفاء الدّين منه. أمّا عند الحنفيّة فلم نجد التّصريح عندهم فيما اطّلعنا عليه بجواز بيع الخلوّ لكن صرّح بعضهم بأنّه لو حكم به قاض يراه من مالكيّ أو غيره جاز. قال ابن عابدين: لو أخرج النّاظر المستأجر من المكان أو آجره لغيره ففي فتوى العماديّ ليس له ذلك ما لم يدفع له المبلغ المرقوم.
21 - من صور ذلك ما ذكره العدويّ أنّه إذا استأجر جماعة من ناظر الوقف أرضاً بثلاثين ديناراً في كلّ عام مثلاً وبنوا عليها داراً ولكنّ الدّار تكرى بستّين، فحقّهم يقال له الخلوّ، فلو باع أحدهم حصّته في البناء فلشركائه الأخذ بالشّفعة. ومن صوره ما ذكره محمّد أبو السّعود من الحنفيّة في حاشيته على الأشباه والنّظائر من أنّ من له خلوّ في أرض محتكرة وكان خلوّه عبارةً عن غراس أو بناء فإنّه يجري فيه حقّ الشّفعة، لأنّه لمّا اتّصل بالأرض اتّصال قرار التحق بالعقار. ولكن قال ابن عابدين: هذا سهو ظاهر لمخالفته المنصوص في كتب المذهب أي من أنّ الوقف لا شفعة له ولا شفعة فيه.
22 - رجّح جمهور متأخّري المالكيّة القول بأنّ الخلوّ يجوز وقفه، فإنّ منفعة العقار الموقوف بعضها موقوف وبعضها غير موقوف، وهذا البعض الثّاني هو الخلوّ، فيجوز أن يتعلّق به الوقف. وبمثله قال الرّحيبانيّ من الحنابلة: إذا جرت العادة به خرّجه من قول أحمد بصحّة وقف الماء إن كانوا قد اعتادوه. ثمّ قال: وهذا ما ظهر لي ولم أجده مسطوراً، لكنّ القياس لا يأباه وليس في كلامهم ما يخالفه. قال العدويّ: على أنّه إن كان الخلوّ لكتابيّ في وقف مسجد فإنّه يمنع من وقفه على كنيسة مثلاً. والرّأي الآخر لدى كلّ من المالكيّة والحنابلة وصرّح به الشّروانيّ من الشّافعيّة، أنّ الخلوّات لا يجوز وقفها، لأنّها منفعة وقف، وما تعلّق الوقف به لا يوقف. وقد قال بذلك أحمد السّنهوريّ وعليّ الأجهوريّ، قال الأجهوريّ: محلّ صحّة وقف المنفعة إن لم تكن منفعة حبس، لتعلّق الحبس بها، وما تعلّق به الحبس لا يحبس، ولو صحّ وقف منفعة الوقف لصحّ وقف الوقف، واللّازم باطل شرعاً وعقلاً، ومن المعلوم أنّ كلّ ذات وقفت إنّما يتعلّق الوقف بمنفعتها وأنّ ذاتها مملوكة للواقف. قال: وبهذا تعلم بطلان تحبيس الخلوّ. ووافق الأجهوريّ على فتياه هذه الشّيخ عبد الباقي، ثمّ لمّا روجع بفتوى اللّقانيّ بجواز بيعها وإرثها أفتى بجواز وقفها قال الشّيخ عليش: والعمل على الفتوى بجواز وقف الخلوّ، وبه جرى العمل في الدّيار المصريّة ولم يخالف الأجهوريّ في سائر التّصرّفات، كالبيع، والإجارة، والإعارة والرّهن. أمّا الحنفيّة فلم نجد لهم تعرّضاً لمسألة وقف منفعة الخلوّ. ولكنّهم يتعرّضون لمسألة وقف ما بناه المستأجر في الأرض المحتكرة أو غرسه فيها. ممّا هو مملوك للمستأجر. والأصل عند الحنفيّة أنّه لا يجوز وقف البناء بدون الأرض، سواء أكانت الأرض مملوكةً أو موقوفةً على جهة أخرى. قال ابن عابدين: أفتى بذلك العلّامة قاسم، وعزاه إلى محمّد بن الحسن، وإلى هلال والخصّاف، وعلّله بعضهم بأنّه غير متعارف، قال ابن عابدين: فحيث تعورف وقفه جاز. وقال ابن الشّحنة: إنّ النّاس منذ زمن قديم نحو مائتي سنة على جوازه، والأحكام به من القضاة العلماء متواترة، والعرف جار به، فلا ينبغي أن يتوقّف فيه ا. هـ. وأمّا إذا وقفه على الجهة الّتي كانت البقعة وقفاً عليها جاز اتّفاقاً تبعاً للبقعة، وحرّر صاحب البحر الرّائق القول الأوّل ووافقه ابن عابدين. قال: لأنّ شرط الوقف التّأبيد، والأرض إذا كانت ملكاً لغيره فللمالك استردادها وأمره بنقض البناء، وكذا لو كانت ملكاً للواقف، فإنّ لورثته بعده ذلك، فلا يكون الوقف مؤبّداً. قال: فينبغي أن يستثنى من ذلك ما إذا كانت الأرض معدّةً للاحتكار، لأنّ البناء يبقى فيها كما إذا كان وقف البناء على جهة وقف الأرض فإنّه لا مطالب لنقضه، والظّاهر أنّ هذا وجه جواز وقفه إذا كان متعارفاً. ونقل صاحب الدّرّ أنّ ابن نجيم سئل عن البناء والغراس في الأرض المحتكرة، هل يجوز بيعه ووقفه؟ فأجاب: نعم. قال ابن عابدين: ووقف الشّجر كوقف البناء. أمّا مجرّد الكبس بالتّراب أي ونحوه ممّا هو مستهلك كالسّماد فلا يصحّ وقفه، ونقل عن الإسعاف في أحكام الأوقاف أنّه لا يجوز وقف ما بني في الأرض المستأجرة ما لم تكن متقرّرةً للاحتكار. وما يسمّى الكدك أو الجدك في حوانيت الوقف ونحوها من رفوف مركّبة في الحانوت على وجه القرار، فالظّاهر أنّه لا يجوز وقفه لعدم العرف الشّائع بخلاف وقف البناء والشّجر.
23 - الّذين قالوا من المالكيّة والحنفيّة والحنابلة إنّ الخلوّ يملك ويباع ويرهن ذهبوا كذلك إلى أنّه يورث، وقد تقدّم ذكر فتيا اللّقانيّ في ذلك وذكر من وافقوه عليها. (ف /16). ولا يخفى أنّ الخلوّ في الأوقاف عند من أفتى بأنّه يملك، يورث على فرائض اللّه تعالى.
24 - على صاحب الخلوّ أو أصحابه ما يقومون به من الإصلاحات، وقد يكون ذلك عليهم على قدر ملكهم فيه، وليس على ناظر الوقف منه شيء، كما لو اشتركوا في بناء في أرض وقف اكتروه من ناظره لذلك، وقد يكون عليهم وعلى النّاظر بالنّسبة، كما لو عمّر المستأجر من ماله حانوت الوقف إذا تخرّب على أن يكون له خلوّاً. الحالة الثّانية من أحوال نشوء حقّ الخلوّ في عقارات الأوقاف: 25 - أن يكون للمستأجر في عقار الوقف حقّ القرار بسبب ما ينشئه في أرض الوقف إذا أنشأه بإذن النّاظر لأجل أن يكون ملكاً له، وخلوّاً ينتفع به، من بناء أو غراس أو كبس بالتّراب وهو المسمّى عند الحنفيّة (الكردار) أو ما ينشئه كذلك في مبنى الوقف، من بناء أو نحوه متّصل اتّصال قرار، وهو المسمّى عندهم (الجدك) قال صاحب الفتاوى الخيريّة: صرّح علماؤنا بأنّ لصاحب الكردار حقّ القرار، فتبقى في يده. ونقل ذلك عن القنية والزّاهديّ، قال الزّاهديّ: استأجر أرضاً وقفاً وغرس فيها أو بنى ثمّ مضت مدّة الإجارة فللمستأجر أن يستبقيها بأجر المثل، إذا لم يكن في ذلك ضرر، ولو أبى الموقوف عليهم إلاّ القلع ليس لهم ذلك. ا. هـ. لكن لو كان في البقاء ضرر لم يجب الاستبقاء كما لو كان المستأجر أو وارثه مفلّساً، أو سيّئ المعاملة، أو متغلّباً يخشى منه أو نحو ذلك، قال الرّمليّ: أصل ذلك في أوقاف الخصّاف حيث قال: " حانوت أصله وقف وعمارته لرجل، وهو لا يرضى أن يستأجر الأرض بأجر المثل "، قالوا: " إن كانت العمارة بحيث لو رفعت يستأجر الأصل بأكثر ممّا يستأجر صاحب البناء كلّف رفعه ويؤجّر من غيره، ولا يترك في يده بذلك الأجر ". ولا يخفى أنّ الأصل في الإجارة أنّه إذا انتهت المدّة فالنّاظر بالخيار بين أن يجدّد عقد الإجارة للمستأجر الأوّل أو لا يجدّده بل تنتهي الإجارة، وله أن يؤجّر لغير المستأجر الأوّل. قال الرّمليّ: وهي مسألة إجماعيّة. لكنّ استبقاء الأرض الوقفيّة المؤجّرة عند من أفتى به إن بنى عليها مستأجرها على الصّفة المذكورة وجهه أنّه أولويّ دفعاً للضّرر عن المستأجر، لا سيّما مع ما ابتلي به النّاس كثيراً. ويشترط في هذه الحالة عند كلّ من أفتى بثبوت هذا الحقّ أن لا تجدّد الإجارة بأقلّ من أجرة المثل منعاً للضّرر عن الوقف، كما أنّ حقّ الاستبقاء للمستأجر إنّما ثبت له دفعاً للضّرر عنه لو طولب برفع جدكة أو كردارة. قال ابن عابدين أنّه يجوز إيجار الوقف بأجرة المثل، فلو زاد أجره على أجر المثل أثناء المدّة زيادةً فاحشةً، فالأصحّ أنّه يجب تجديد العقد بالأجرة الزّائدة، وقبول المستأجر الزّيادة يكفي عن تجديد العقد. والمراد أن تزيد أجرة الوقف في نفسه لزيادة الرّغبة، لا زيادة متعنّت، ولا بما يزيد بعمارة المستأجر. فإن قبل المستأجر بالزّيادة فهو أولى من غيره، لأنّه يزول المسوّغ للفسخ فلا يكون له داع. فإن لم يقبل المستأجر الالتزام بالزّيادة فللمتولّي فسخ الإجارة، فإن امتنع فسخها القاضي، ويؤجّرها المتولّي من غيره. وهذا إن زادت أجرة المثل في أثناء مدّة العقد، فبعد انتهائها أولى. هذا ويشترط لثبوت حقّ القرار عند من أفتى به من الحنفيّة أن يكون ما صنعه المستأجر من وضع غراسه، أو بنائه، أو جدكة بإذن النّاظر ليكون للمستأجر ملكاً وخلوّاً، فإن وضعه دون إذن فلا عبرة به، ولا يجب تجديد الإجارة له. أمّا المستأجر إذا لم يكن له في محلّ الإجارة جدك ولا كردار فلا يكون له فيه حقّ القرار فلا يكون أحقّ بالاستئجار بعد انقضاء مدّة استئجاره، سواء أزادت أجرة المثل أم لا، وسواء قبل الزّيادة أم لا، قال ابن عابدين: ومن أفتى بأنّه إنّ قبل الزّيادة العارضة يكون أولى من غيره، فذلك مخالف لما أطبقت عليه كتب المذهب من متون، وشروح، وحواش، وفيه الفساد وضياع الأوقاف، حيث إنّ بقاء أرض الوقف بيد مستأجر واحد المدّة الطّويلة يؤدّي به إلى دعوى تملّكها، مع أنّهم منعوا من تطويل الإجارة في الوقف خوفًا من ذلك. ا. هـ إذ المشهور عند الحنفيّة أنّ الوقف لا يؤجّر أكثر من سنة للبناء، وثلاث سنين للأرض. ولو كان لإنسان حقّ القرار في عقار وقف بسبب كرداره، ثمّ زال ذلك الكردار زال حقّه في القرار. قال الرّمليّ: في أرض فنيت أشجارها، وذهب كردارها ويريد محتكرها أن تستمرّ تحت يده بالحكر السّابق وهو دون أجرة المثل: قال: لا يحكم له بذلك، بل النّاظر يتصرّف بما فيه الحظّ لجانب الوقف من دفعها بطريق المزارعة، أو إجارتها بالدّراهم والدّنانير، والحكر لا يوجب للمستحكر استبقاء الأرض في يده أبداً على ما يريد ويشتهي. ثمّ قد نقل ابن عابدين أنّ هذا الجدك المتّصل اتّصال قرار الموضوع على الوجه المبين قال فيه أبو السّعود: إنّه يصدق عليه أنّه خلوّ واستظهر أنّه كالخلوّ، ويحكم له بحكمه بجامع العرف في كلّ منهما. ومثل ذلك في الفتاوى المهديّة وقال: إنّ الحقّ المذكور لا يثبت إلاّ إذا بنى المستأجر فعلاً، أو غرس فعلاً، فلو مات قبل أن يبني أو يغرس انفسخت الإجارة وفات الورثة ذلك الحقّ.
26 - إذا ثبت حقّ القرار للمستأجر في أرض الوقف، أو حوانيته على الصّفة المبيّنة سابقاً ووضع أبنيةً أو جدكاً ثابتاً، أو أشجاراً في أرض الوقف، فإنّ ما يضعه يكون ملكاً له على وجه القرار، ويكون للمستأجر في أثناء مدّة الإجارة أو بعدها بيع ما أحدثه من الأعيان من غيره، وينتقل حقّ القرار للمشتري، ويكون على المشتري مثل أجر الأرض خاليةً عمّا أحدثه فيها، وكذا الحانوت. أمّا الأرض الموقوفة إذا استأجرها على وجه لا يثبت به حقّ القرار كما تقدّم، أو كان استئجارها على وجه يثبت به حقّ القرار لكن لم يبن فعلاً، أو بنى شيئاً ففني وزال فلا يباع ذلك الحقّ فيها عند الحنفيّة لأنّه مجرّد. وقد تعرّض بعض متأخّري الحنفيّة للفراغ عن ذلك مقابل عوض ماليّ ليس من قبيل البيع بل من قبيل التّنازل عن الحقّ المجرّد بمال. ففي تنقيح الفتاوى الحامديّة أنّ ذلك لا يجوز أصلاً، ونقل في واقعة: حكم بصحّته قاض حنبليّ نفذ لو كان موافقاً لمذهب أحمد، لكن قال إنّه لا ينفذ لأنّ الفتوى عند الحنابلة أنّه " لا يصحّ الفراغ في الأوقاف الأهليّة، وأوقاف المساجد ونحوها، سواء أذن في ذلك النّاظر أم لم يأذن، بل للنّاظر إيجارها وصرف أجرتها في جهات الوقف، ولا يصحّ الفراغ إلاّ في ما فتح عنوةً ولم يقسم وضرب عليه خراج يؤخذ ممّن هو في يده ". وفي الفتاوى الخيريّة: سئل في أرض وقف دفعها النّاظر لمزارع يزرعها بالحصّة هل يملك المزارع دفعها لمزارع آخر بمال يأخذه لنفسه في مقابلها، أم لا يجوز له ذلك. فلا يصحّ بيعه ولا فراغه، ويرجع المزارع الثّاني على الأوّل بما دفعه من مال؟ فأجاب: أرض الوقف لا يملكها المزارع ولا تصرّف له فيها بالفراغ عن منفعتها بمال يدفعه له مزارع آخر ليزرعها لنفسه، لأنّ انتفاع الأوّل بها مجرّد حقّ، لا يجوز الاعتياض عنه بمال، فإذا أخذ مالاً في مقابلة الاعتياض عنه يستردّه منه صاحبه شرعاً. والوقف محرّم بحرمات اللّه تعالى. ومثل ذلك في الفتاوى المهديّة في أرض الوقف. ونقله عن ابن عابدين في رسالته المسمّاة " تحرير العبارة فيمن هو أحقّ بالإجارة " وقال: لا يجوز للمستأجر إسقاط حقّه في أثناء المدّة من أجنبيّ في مقابلة مال يأخذه، ثمّ يستأجر المسقط له من النّاظر إذ هذا من قبيل الحقوق المجرّدة الّتي لا يجوز الاعتياض عنها، كحقّ الشّفعة. ثمّ قال: إنّ هذا لا يمنع المستأجر أن يؤجّر لغيره إلى باقي المدّة وإن لم يكن له فيها حقّ القرار، لأنّه مالك للمنفعة إلى نهاية مدّة الإجارة فله بيعها بطريق الإجارة. أمّا عند المالكيّة فلم نجد التّصريح منهم بحكم هذه المسألة غير أنّ الشّيخ عليشاً ذكر أنّ الموقوف عليه المعيّن إن آجر الوقف وأذن للمستأجر في البناء فيه ثمّ مات المؤجّر تنفسخ الإجارة، والبناء ملك للباني فله نقضه أو قيمته منقوضاً إن كان للوقف ريع يدفع منه ذلك، وهذا إن كان الوقف لا يحتاج لما بناه وإلاّ فيوفّى له من الغلّة قطعاً. قال الشّيخ عليش: أفاد ذلك الشّيخ الخرشيّ رحمه الله. ولم نجد للشّافعيّة والحنابلة ما فيه النّصّ على ذلك، على أنّ قاعدة الإجارة تقتضي إنهاء حقّ المستأجر بانتهاء مدّة الإجارة. قال ابن رجب: غراس المستأجر وبناؤه بعد انقضاء المدّة إذا لم يقلعه المالك، فللمؤجّر تملّكه بالقيمة ويجبر المالك على القبول، وإن كان يمكن فصله بدون ضرر يلحق مالك الأصل، فالمشهور أنّه ليس له تملّكه قهراً. وقد تقدّم النّقل من صاحب الفتاوى الحامديّة أنّ الفتوى عند الحنابلة أنّه لا يصحّ الفراغ مقابل مال في الأوقاف.
26 م - الأراضي الّتي فتحت عنوةً وأبقيت بأيدي أربابها من أهل الأرض بالخراج هي عند الحنفيّة ملك لأهلها يجري فيها البيع، والشّراء، والرّهن والهبة، وغير ذلك. أمّا أراضي بيت المال وهي الّتي آلت إليه بموت أربابها، أو فتحت عنوةً وأبقاها الإمام لبيت المال، وهي الّتي تسمّى " أرض الحوز " فإذا دفعها الإمام إلى الرّعيّة كانت بأيديهم وليس لهم بيعها، ولا استبدالها إلاّ بإذن الإمام، ولا تكون ملكاً لأحد إلاّ بتمليك السّلطان له. ثمّ إنّ من هي تحت يده من الرّعايا إن تسلّمها بوجه حقّ فهو أولى بها من غيره ما دام يدفع أجر المثل، فيكون له فيها " مشدّ مسكة " يتمسّك بها ما دام حيّاً في الحرث وغيره، وحكمها أنّها لا تقوّم، ولا تملّك، ولا تباع. وكذا إن أجرى فيها كراباً أي حرثاً، أو كرى أنهارها، أو نحو ذلك ممّا لم يكن مالاً ولا بمعنى المال، وهو مجرّد الفلاحة فليس ذلك متقوّماً عند الحنفيّة، لأنّه بمعنى الوصف فلا يباع ولا يورث. وقال بعضهم: يباع حتّى يزول وجوده من الأرض فترجع إلى الأوّل. أمّا إن كان له كردار من بناء أو أشجار فإنّه يباع ويورث دون الأرض، ولم يسمّوه خلوّاً. وإن كان المالكيّة سمّوه خلوّاً أو ألحقوه بالخلوّ كما يأتي، على أنّهم ذكروا أنّه إن كان له مشدّ مسكة - ولو لم يكن في الأرض كردار - فلصاحبها تفويضها لغيره وتكون في يد المفوّض إليه عاريّة والأوّل أحقّ بها، وله إجارتها، وله أيضاً الفراغ عنها لغيره بمال، جاء في الولوالجيّة: عمارة في أرض رجل بيعت فإن بناءً أو أشجاراً جاز، وإن كراباً أو كري أنهار لم يجز، قالوا: ومفاده أنّ بيع المسكة لا يجوز، وكذا رهنها، ولذا جعلوه الآن " فراغًا " أي كالنّزول عن الوظائف بمال. فإذا فرغ عنها لأحد لم ينتقل الحقّ فيها إلاّ إذا اقترن بإذن السّلطان أو نائبه. على أنّه لو دفع مالاً مقابل الفراغ ثمّ لم يأذن السّلطان أو نائبه بنقلها يكون لدافع المال حقّ الرّجوع فيه. أمّا عند المالكيّة: فإنّ الأرض الصّالحة للزّرع، وأرض الدّور الّتي فتحت عنوةً في الشّام ومصر، والعراق، هي وقف وقفت بمجرّد فتحها عنوةً، ويقطعها الإمام أو يكريها لمن شاء بحسب المصلحة، وينتهي إقطاعها بموت المقطع مع بقائها على وقفيّتها، فلا تباع، ولا ترهن ولا تورث. لكن قد اختلف المتأخّرون من فقهاء المالكيّة في ذلك على قولين: القول الأوّل: قال الشّيخ عليش: قد أفتى بعض المالكيّة بأنّه يورث، فإنّهم ألحقوه بالخلوّات والخراج كالكراء. قال: وإنّما يلحق بها إن حصل من واضع اليد على الأرض أثر فيها كإصلاح: بإزالة شوكها، أو حرثها، أو نصب جسر عليها، أو نحو ذلك ممّا يلحق بالبناء في الأوقاف، فيكون الأثر الّذي عمله في الأرض خلوّاً ينتفع به ويملك. فكأنّ الّذين أفتوا بذلك نظروا إلى أنّه لا يسلم الأمر من وقوع شيء من هذا النّوع، أو من دفع مغارم للملتزم " وهو الّذي يتقبّل الأراضي من السّلطان مقابل مال يدفعه له، ويأخذ الملتزم المال من الفلّاحين لتمكينهم من الأرض " قال: فالّذي ينبغي في هذه الأزمان الإفتاء بالإرث ; ولأنّه أدفع للنّزاع والفتن بين الفلّاحين، وللملتزم الخراج على الأرض لا أكثر، وأن لا يكون له عزل الفلاح عن أثر له في الأرض. القول الثّاني: ذهب الدّردير إلى أنّ الفتوى السّابق بيانها مكذوبة على من نسبت إليه. قال الشّيخ عليش: مراعاة مشهور المذهب تقتضي عدم التّوريث فيما فتح عنوةً بل يفعل السّلطان أو نائبه ما فيه المصلحة، ولا تورث، بل الحقّ لمن يقرّره فيها نائب السّلطان لأنّها مكتراة، والخراج كراؤها ولا حقّ للمكتري في مثل هذا ثمّ إنّه إذا تنازل من هي بيده لغيره مقابل عوض ماليّ على أن يكون الخراج على المسقط له، فقد أفتى الشّيخ عليش بجواز ذلك، على أن يكون العوض من غير جنس ما يخرج منها. وعند الشّافعيّة الأرض المذكورة قسمت على الغانمين ثمّ طلبها عمر منهم فبذلوها فوقفها على مصالح المسلمين، وآجرها لأهلها إجارةً مؤبّدةً بالخراج فيمتنع عليهم لكونها وقفاً بيعها ورهنها وهبتها، ولهم إجارتها مدّةً معلومةً لا مؤبّدةً. وهذا حكم الأرض نفسها، أمّا البناء والأشجار الّتي يحدثها في الأرض من هي بيده من الرّعايا فهو ملك له، وله أن يقفه كما هو الأصحّ فيما يبنيه في الأرض المستأجرة، ويرهن ويباع. أمّا النّزول عن الأرض المذكورة ممّن هي بيده إلى غيره مقابل عوض ماليّ فلم نجد عند الشّافعيّة تعرّضاً له. ولكنّهم في المتحجّر قالوا إنّ الأصحّ أنّه لا يصحّ بيعه لما تحجّره لأنّه لم يملكه، والقول الثّاني يصحّ، وكأنّه يبيع حقّ الاختصاص. قال المحلّيّ: كذا في الرّوضة وأصلها، وفي المحرّر ليس له أن يبيع هذا الحقّ. أمّا عند الحنابلة فمع أنّهم لم يسمّوا مثل هذا الحقّ خلوّاً فقد قالوا: إنّ منافع الأرض الخراجيّة يجوز نقلها بغير عوض، ومن نزل عن أرض خراجيّة بيده لغيره، فإنّ المتروك له أحقّ بها، فيجوز نقلها بلا عوض، وأجاز أحمد دفعها عوضاً عمّا تستحقّه الزّوجة من المهر، وأمّا البيع فقد كرهه أحمد ونهى عنه. واختلف قوله في بيع العمارة الّتي فيها لئلاّ تتّخذ طريقاً إلى بيع رقبة الأرض الّتي لا تملك، بل هي إمّا وقف، وإمّا فيء. ونصّ أحمد في رواية على أنّه يبيع آلات عمارته بما تساوي أي بثمن المثل، وكره أن يبيع بأكثر من ذلك للمعنى المذكور، ونقل عنه ابن هانئ: يقوّم دكّانه وما فيه وكلّ شيء يحدثه فيه فيعطى ذلك، ولا أرى أن يبيع سكنى دار ولا دكّان. وبيّن ابن رجب أنّ ذلك من أحمد لسدّ الذّريعة إلى بيع الأرض نفسها بدعوى بيع ما فيها من العمارة. قال: والأظهر أنّ أحمد إنّما أراد النّهي عن أخذ العوض عن رقبة الأرض بهذه الحيلة، وبهذا قال: هذا خداع. وهذا يفيد أنّه لا يجوز بيع آلاته بأكثر من قيمتها. ونقل عن ابن تيميّة تجويز بيعها فتنتقل بخراجها بخلاف بيع الوقف على معيّن فإنّه يبطل حقّ البطن الثّاني. ا. هـ. وقال في الإقناع وشرحه: إن آثر من هي بيده بها أحدًا ببيع أو غيره صار الثّاني أحقّ بها. ومعنى البيع هنا بذلها بما عليها من خراج إن منعنا بيعها الحقيقيّ كما هو المذهب، لأنّ عمر وقفها والوقف لا يباع.
27 - إذا مات من بيده شيء من الأراضي الأميريّة فإنّها عند الحنفيّة لا تورث عنه لأنّ رقبتها لبيت المال فترجع إليه، ولا يستحقّ انتقالها إلى ورثته أو غيرهم إلاّ بإذن السّلطان. وهذا بخلاف ما عليها من غراس أو بناء فإنّه يورث طبقاً للوجه الشّرعيّ. أمّا مشدّ المسكة نفسه فإنّه لا يورث أصلاً لأنّه حقّ مجرّد. لكن جرت فتوى متأخّري الحنفيّة أنّه ينتقل إلى الأبناء الذّكور انتقالاً لا على سبيل الميراث، بل بمعنى أنّهم يكونون أولى به من غيرهم، وينتقل مجّاناً. وجرى الرّسم على ذلك في الدّولة العثمانيّة. أمّا المالكيّة فالأراضي الأميريّة قد تقدّم ذكر الخلاف عندهم في ثبوت حقّ الخلوّ فيها، وأنّ من المالكيّة من قال: إنّها لا تورث وذلك مقتضى مشهور المذهب بأنّها وقف، وأنّ السّلطان أحقّ بتوجيهها ممّن هي بيده، ومن ورثته، ومنهم من قال: بأنّها تورث، وأنّ الإرث في الحقيقة ليس لرقبتها بل لمنفعتها ما دام يؤدّي ما عليها من الخراج الّذي هو كالأجرة. ثمّ اختلفوا فيمن تئول إليه الأرض إذا مات من هي تحت يده، فالّذين قالوا بعدم التّوريث قالوا: السّلطان أحقّ بتوجيهها إلى من شاء، لكن إن كانت العادة قد جرت بنقلها إلى ورثته جميعاً، أو لأولاده الذّكور دون الإناث يعمل بذلك، قال الدّردير: وقد جرت العادة في بعض قرى الصّعيد أن يختصّ الذّكور بالأرض دون الإناث، فيجب إجراؤهم على عادتهم على ما يظهر لأنّ هذه العادة والعرف صارت كالإذن من السّلطان في ذلك. أمّا الّذين قالوا إنّ منفعة الخلوّ فيها تورث قالوا: إنّها تورث طبقاً لما توجبه أحكام التّوريث فهي لجميع الورثة من الزّوج أو الزّوجة والأبوين والعصبات والأولاد الذّكور منهم والإناث طبقًا للكتاب والسّنّة. قال الشّيخ عليش: الحقّ فيها يورث على فرائض اللّه تعالى ولا وجه لتخصيص الذّكور لأنّها خصلة جاهليّة لا تحلّ في الإسلام وإن استظهر ذلك الدّردير. وقال أيضاً: توريث الذّكور دون الإناث عرف فاسد لا يجوز العمل به. وفي الشّرح الكبير قال الدّردير: مقتضى المذهب أنّ للسّلطان أو نائبه أن يمنع الورثة من وضع يدهم عليها وله أن يعطيها لمن شاء. ثمّ قال: وقد يظهر أنّه لا يجوز له، لما في ذلك من فتح باب يؤدّي إلى الهرج والفساد، وأنّ لمورّثهم نوع استحقاق، وأيضاً العادة تنزّل منزلة حكم السّلاطين المتقدّمين من أنّ كلّ من بيده شيء فهو لورثته أو لأولاده الذّكور دون الإناث رعايةً لحقّ المصلحة. نعم إذا مات شخص وتحت يده أرض يؤدّي خراجها عن غير وارث فالأمر للسّلطان أو نائبه، أي يقرّر في الأرض من يشاء، ولا تورث عن الميّت. قال الدّسوقيّ: نعم وارثه أولى وأحقّ بها من غيره. ولم يتّضح لنا قول الشّافعيّة في ذلك. أمّا عند الحنابلة فالورثة أحقّ بالتّمسّك بالأرض الخراجيّة فتنتقل إليهم بوفاة من هي بيده، وليس للإمام نزعها منهم ما داموا يؤدّون الخراج. قال ابن القيّم: من بيده أرض خراجيّة فهو أحقّ بها وترثها ورثته كذلك فيملكون منافعها بالخراج الّذي يبذلونه. وظاهر هذا أنّ توارث هذا الحقّ يستحقّ طبقاً لأنصبة الميراث وإن لم يكن الحقّ الموروث مالاً.
28 - نقل ابن عابدين عن الخصّاف أنّه قال: إنّ وقف حوانيت الأسواق يجوز إن كانت الأرض بأيدي الّذين بنوها بإجارة لا يخرجهم السّلطان عنها من قبل أنّا رأيناها في أيدي أصحاب البناء توارثوها وتقسم بينهم لا يتعرّض لهم السّلطان فيها ولا يزعجهم منها، وإنّما له غلّة يأخذها منهم وتداولها خلف عن سلف، ومضى عليها الدّهور وهي في أيديهم يتبايعونها، ويؤجّرونها، وتجوز في وصاياهم، ويهدمون بناءها، ويعيدونه، ويبنون غيره، فكذلك الوقف جائز. ا. هـ. قال ابن عابدين: وأقرّه في الفتح ووجهه بقاء التّأبيد. وإن كان ما جعله في الأرض غراسًا فالحكم في وقفها حكم البناء. أمّا إن كان ما عمله في الأرض مجرّد كبس بالتّراب أو السّماد فلا يصحّ وقفه. ولم نطّلع على كلام لغير الحنفيّة في ذلك.
29 - فرّق الحنفيّة بين الوقف والملك في ثبوت حقّ القرار فأثبتوه للمستأجر في عقارات الأوقاف على الوجه الّذي تقدّم بيانه، ونفوه في الأملاك الخاصّة المؤجّرة، وبيّنوا أنّ الفرق في ذلك هو أنّ المالك أحقّ بملكه إذا انتهى عقد الإجارة، ثمّ هو قد يرغب في تجديد إيجاره للمستأجر الأوّل بنفس الأجر، أو أقلّ، أو أكثر، وقد لا يرغب في ذلك، وقد يريد أن يسكنه بنفسه، أو يبيعه، أو يعطّله، بخلاف الموقوف المعدّ للإيجار، فإنّه ليس للنّاظر إلاّ أن يؤجّره، فإيجاره من ذي اليد بأجرة مثله أولى من إيجاره لأجنبيّ، لما فيه من النّظر للوقف ولذي اليد. ولمالك الحانوت أن يكلّف المستأجر رفع جدكة وإفراغ المحلّ لمالكه. ومقتضى ذلك أن لا يثبت حقّ القرار في الأملاك الخاصّة حتّى عند من سمّاه في عقارات الوقف خلوًّا ; ولأنّه يلزم من عدم إخراج صاحب الحانوت لصاحب الخلوّ حجر الحرّ المكلّف عن ملكه وإتلاف ماله. وهي مسألة إجماعيّة كما نقله صاحب الفتاوى الخيريّة وكما هو معلوم من أحكام الإجارة فإن كان للمستأجر عند انتهاء الإجارة في الأرض بناء أو أشجار، أو في الحانوت بناء، يلزمه رفعه على خلاف وتفصيل يرجع إليه في أحكام الإجارة. أمّا إنشاء الخلوّ قصداً بتعاقد بين المستأجر والمالك مقابل دراهم معيّنة ليمكّنه من وضع بناء أو نحوه في الأرض أو الحانوت على أن يكون للمستأجر الخلوّ، فقد أفتى بصحّته بعض متأخّري الحنفيّة. قال ابن عابدين: ممّن أفتى بلزوم الخلوّ بمقابلة دراهم يدفعها إلى المالك العلّامة عبد الرّحمن العماديّ وقال: فلا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره فيفتى بجواز ذلك للضّرورة. وسئل المهديّ العبّاسيّ في رجل له حانوت متخرّب استأجره منه رجل سنةً، وأذن له بالبناء والعمارة فيه ليكون ما عمّره وبناه وأنشأه خلوّاً له وملكاً مستحقّ البقاء والقرار، وجعل عليه أجرةً للأرض مقداراً معلوماً من الدّراهم مسانهةً " سنويّاً " فهل إذا بنى وعمّر وأنشأ على هذا الوجه يكون ذلك ملكاً للمستأجر، وإذا مات الآذن يكون لورثته أجرة الأرض فقط؟ فأجاب: ما بناه المستأجر من ماله لنفسه بإذن المالك في حياته على الوجه المذكور مملوك لبانيه يورث عنه إذا مات، وعليه الأجرة المقرّرة على الأرض واللّه أعلم. ثمّ قرّر أنّ الخلوّ في هذه الحال يجوز بيعه لأنّه عبارة عن أعيان مملوكة لصاحبها مستحقّ قرارها في المحلّ. وكذلك الحكم عند المالكيّة، فقد قال الشّيخ عليش: الخلوّ ربّما يقاس عليه الجدك المتعارف في حوانيت مصر، فإنّ الخلوّ إذا صحّ في الوقف ففي الملك أولى لأنّ المالك يفعل في ملكه ما يشاء. لكنّ بعض الجدكات بناء، أو إصلاح أخشاب في الحانوت مثلاً بإذن، وهذا قياسه على الخلوّ ظاهر خصوصًا وقد استندوا في تأبيد الحكر للعرف، والعرف حاصل في الجدك. والبعض الآخر من الجدكات وضع أشياء مستقلّة في المحلّ " أي منفصلةً " غير مسمّرة فيه كما يقع في الحمّامات، وحوانيت القهوة بمصر، فهذه بعيدة عن الخلوّات، فالظّاهر أنّ للمالك إخراجها. ا. هـ. وظاهر أنّه يعني بقوله: " إنّ الخلوّ إذا صحّ في الوقف ففي الملك أولى "، أن يتعاقد المالك ومستأجر الحانوت على إنشاء الخلوّ وتأبيده لا إن حصل ذلك بمجرّد الإذن ويفهم ذلك من قوله " لأنّ المالك يفعل في ملكه ما يشاء ". وكذلك عند الحنابلة الّذين أجازوا بيع المنفعة يجوز عندهم على ما خرّجه البهوتيّ إنشاء الخلوّ بمال يدفع إلى ناظر الوقف بشروطه كما تقدّم.
30 - يدور حكم هذه المسألة على أنّ المستأجر الأوّل إن كان يملك المنفعة إلى مدّة معيّنة بإجارة صحيحة مع المالك، أو ناظر الوقف، فتخلّى عن الحانوت أثناء المدّة لمستأجر آخر يحلّ محلّه وأخذ على ذلك عوضاً من المستأجر الّذي يحلّ محلّه جاز ذلك، ومن شرط ذلك في حوانيت الوقف أن تكون الإجارة بأجر المثل، قال الشّيخ عليش في فتاويه: إنّ حوانيت الأوقاف بمصر جرت عادة سكّانها أنّه إذا أراد أحدهم الخروج من الدّكّان أخذ من الآخر مالاً على أن ينتفع بالسّكنى فيه، ويسمّونه خلوّاً وجدكاً، ويتداولون ذلك واحداً بعد واحد، وليس يعود على تلك الأوقاف نفع أصلاً غير أجرة الحانوت، بل الغالب أنّ أجرة الحانوت أقلّ من أجرة المثل بسبب ما دفعه الآخذ من مال. ثمّ قال: والّذي يدور عليه الجواب في ذلك أنّ السّاكن الّذي أخذ الخلوّ إن كان يملك منفعة الحانوت مدّةً فأسكنها غيره وأخذ على ذلك مالاً فإن كان الآخذ بيده إجارة صحيحة من النّاظر أو الوكيل بشروطها بأجرة المثل فهو سائغ له الأخذ على تلك المنفعة الّتي يملكها، ولا ضرر على الوقف لصدور الأجرة موافقةً لأجرة المثل. وأمّا إن لم يكن مالكاً للمنفعة بإجارة صحيحة فلا عبرة بخلوّه ويؤجّره النّاظر لمن يشاء بأجرة المثل. ويرجع دافع الدّراهم على من دفعها له. ا. هـ. وأمّا بعد انتهاء مدّة عقد الإجارة فالمالك أحقّ بملكه كما تقدّم (ف /29) ما لم يكن المستأجر قد اتّفق معه على إنشاء الخلوّ بمال دفعه إليه فله بيع الخلوّ إلى مستأجر يأتي بعده كما تقدّم في أوّل هذا البحث، لأنّ الخلوّ الصّحيح يجوز بيعه إن تمّت شروطه عند من أخذ بذلك.
31 - إذا عقد النّكاح بلا تسمية مهر فإنّه يسمّى " التّفويض في النّكاح " وتفصيله في مصطلح (تفويض).
انظر: خلطة.
انظر: خُلطة. نهاية الجزء التاسع عشر
|